الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني

الدكتور / عبد العظيم صغيري

المبحث الرابع

مفهوم "التسوية" في القرآن الكريم

يرتقي الاستعمال القرآني للمفاهيم الجمالية مراقي شتى، تنطلق من توظيف مفاهيم تصف مظاهر الجمال من حيث وقعها في النفس كما رأينا مع مفهوم "الجمال"، أو من حيث الوجود الحقيقي لهذا الجمال في الشيء كما مر معنا في مفهوم "الحسن"، أو من حيث ارتباطه بالاستعمال الوظيفي للإنسان سلبا وإيجابا كما جلينا ذلك في مفهوم "الزينة"؛ لكن هذه المراقي تبلغ أوجها وكمالها مع مفهوم "التسوية" حيث الجمال مطلوب حضوره في المظهر والمخبر، في الشكل والمضمون، في الخارج والداخل، في الظاهر والباطن، وفي كل التمظهرات والتجليات المرتبطة بالشيء الذي وسمناه بـ"التسوية".

فالمستوي في كلام العرب هو: "التام الذي قد بلغ الغاية في شبابه وتمام خلقه وعقله" [1] ، ومن عادتهم في الكلام أن لا يقال في شيء من الأشياء "استوى بنفسه" حتى يضم إلى غيره، فيقال: "استوى فلان وفلان" إلا في معنى بلوغ الرجل الغاية، فيقال: "استوى"، ومن ذلك وصفهم لليلة الثالثة [ ص: 83 ] عشرة بالليلة السواء لأن فيها يستوي القمر ويكتمل [2] ، ووصفهم للقتب الأعجمي المقدم للبعير بـ"السوية" ويجمعونه على "السوايا" لأن بتناوله يستوي البعير ويكتمل [3] ، ومنه وصفهم للمكان البارز بـ"المكان السوي" لاكتماله وظهوره بحيث لايخفى على أحد، وهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: "مكانا سوى"،أي: معلما قد علم القوم به لاستوائه استواء يسهل إدراكه ومعرفته [4] .

وقد جاء النص القرآني ليحافظ على المعنى السـابق للتسوية ويؤكده، بل ويلبسه لبوسا آخر بإضافته إلى الذات الإلهية، فالله هو وحده القادر على تسوية الخلق وإخراجه إلى الوجود في أحسن صورة وأبهى حلة، قال تعالى: ( الذي خلق فسوى ) (الأعلى:2) وقال: ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) (الانفطار:7)، أي الذي جعل أعضاءك سوية سليمة معدة لمنافعها، و"جعل قامتك مستوية معتدلة وخلقتك حسنة" [5] ، كما قال: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) (التين:4)، ونظيره قوله تعالى: ( أكفرت بالذي خلقك [ ص: 84 ] من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) (الكهف:37)، أي : معتدل الخلق والأعضاء، قال ذو النون: "أي سخر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخرا لشيء منها، ثـم أنطق لسـانك بالذكر، وقـلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا" [6] .

إن التسوية هاهنا تتجاوز جمال الشكل إلى جمال المضمون، بل إنها تجمع بينهما في اتساق وتكامل، وعليه، "فاعوجاج زبانى العقرب من تسوية خلقها لتدفع عن نفسها بها بسهولة"[7] ، وعليه فالتسوية هي: "جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادلا، أي مناسبا للأعمال التي في جبلته" [8] ، ولذلك فهي: "تطلق على إكمال الشىء بحيث يحصل المقصود حتى أنه يقال: سوى الطعام، بمعنى طبخه على وجه مطلوب وعلى جعل الأشياء على سواء قيل وهو الأصل، فالأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها" [9] ، لذلك عطف البيان القرآني جملة: ( فسوى ) بالفاء دون الواو للإشارة إلى أن مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له [10] . [ ص: 85 ]

وعموما فالتسوية في الأصل هي كما قال الألوسي، رحمه الله، في تفسيره لقوله تعالى: ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) (الانفطار:7): "جعل الأشياء على سواء، فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به" [11] ، و"عدلها عدل بعضها ببعض، بحيث اعتدلت من عدل، فلانا بفلان إذا ساوى بينهما، أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف، وقرأ غير واحد من السبعة عدلك بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه" [12] .

ولقد توسع المفسرون، رحمهم الله، في بيان مدلول التسوية بما لايتسع المجال لبسطه هنا، ويمكن الاكتفاء ببعض الأمثلة التي تخدم غرضنا من هذا المبحث، فقد حصر صاحب "النكت والعيون" عموم الدلالات التي عليها مدار التسوية في الآتي:

- أحدها: أنشأ خلقهم ثم سواهم فأكملهم .

- الثاني: خلقهم خلقا كاملا وسوى لكل جارحة مثلا . [ ص: 86 ]

- الثالث: خلقهم بإنعامه وسوى بينهم في أحكامه.

- رابعا: خلق في أصلاب الرجال، وسوى في أرحام الأمهات .

- خامسا: خلق الأجساد فسوى الأفهام [13] .

وأشار في موضع آخر عند تفسيره لقوله تعالى: ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) (الانفطار:7) إلى أن التسوية تحتمل ثلاثة أوجه:

- أحدها: فسوى خلقك وعدل خلقتك .

- الثاني: فسوى أعضاءك بحسب الحاجة وعدلها في المماثلة لا تفضل يد على يد، ولا رجل على رجل.

- الثالث: فسواك إنسانا كريما وعدل بك عن أن يجعلك حيوانا بهيميا. قال أصحاب الخواطر: "سواك بالعقل وعدلك بالإيمان" [14] .

أما الرازي، رحمه الله، فقد رأى أن: "التسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة إلى إبداع القوى" [15] ، وذلك في معرض حديثه عن قوله تعالى: ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) (الحجر:29)، وذهب إلى أن: "الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان، والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام، وعلى هذا التقدير [ ص: 87 ] يكون الخلق مقدما على الهداية" [16] ، ويبدو أنه التزم بحرفية تتابع الدلالات في قوله تعالى: ( سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ) (الأعلى:1-3)، وقد درج، رحمه الله، في تفسيره على تقوية المعنى نفسه، والانتصار له في كل الآيات التي يجد فيها دلالة على ما ذهب إليه، يقول، رحمه الله، في معرض تفسيره لقوله تعالى: ( الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ) (الأعلى:2-3): "واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه، فلنتكلم في الإنسان فنقول: إنه مخلوق، فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات، ومن قال هو من عالـم الأمر والروحانيات، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله: ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) (ص:72)، فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر، وأيضا قال: ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) (المؤمنون:12)، ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال: ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) (المؤمنون:14)، وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية" [17] ، ثم قال في [ ص: 88 ] موضع آخر بعد تفسيره لقوله تعالى: ( سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ) (الأعلى:1-3): "وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية" [18] .

من كل ماسبق، نخلص إلى القـول: إن أغلب المفسرين، رحمهم الله، لم يحافظوا لمفهوم التسوية على كماله وشموله الذي أوضحناه في مقدمة هذا المبحث، فأغلب النقول التي أوردناها تقصر التسوية على الجانب المادي، وترى أن التعبير القرآني يستعمل مصطلح "الهداية" للدلالة على تسوية الروح والباطن، أما التسوية فهي خاصة بالجانب المادي لاغير. والغريب في الأمر أنه لم يسلم من هذا الفهم حتى العلامة الطاهر بن عاشور الذي يقرر أن: "الاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق، والاستدلال عليه بنظـام أحوال الأرواح وصـلاحها هو الهداية" [19] ، كما أن الرازي، رحمـه الله، رأى في موضـع آخر أن قوله تعالى: ( خلق فسوى ) : "يدخل فيه إكمال العقل والقوى" [20] وهو مايخالف قوله السابق القاضي بقصر التسوية على الجانب المادي دون المعنوي . [ ص: 89 ]

لذلك نقرر باستعمالنا للفهم الجمالي لدلالات المفاهيم ومعانيها، أن الفهم السابق الذي ألبسه المفسرون لـمفهوم "التسوية" غير مسلم به في مجمل ما قدموه من شروح وتوضيحـات، مع تقديرنا لجهودهم وآرائهم، إذ إن السياق القرآني يحتفظ لهذا المفهوم بدلالة تتوافق وماصدقه والمراد منه، فالشيء السوي هو المكتمل في مظهره ومخبره، في ظاهره وباطنه، في تمظهراته البرانية، وتجلياته الباطنية على السواء. يتعزز هذا الفهم أكثر عندما نرى أن القرآن الكريم كما ينسب التسوية إلى الخلق: ( الذي خلق فسوى ) (الأعلى:2)، ينسبها أيضا إلى النفس: ( ونفس وما سواها ) [21] ، وعليه فالتسوية في الإطلاق القرآني تشمل دفعة واحدة الجسد والروح، الظاهر والباطن، أي بكلمة واحدة، تشمل كل المكونات الداخلية والخارجية للشيء الموصوف بالتسوية، لهذا لـم ينسب هذا اللفظ في القرآن الكريم إلى الإنسان لعدم قدرته على النفاذ إلى جوهر الأشياء وعمقها، واكتفائه بالأبعاد الخارجية في الحكم على الأشخاص والمواقف والتصرفات ، لكن بالمقابل نسب البيان القرآني التسوية إلى الباري جل وعلا لأنه وحده القادر على [ ص: 90 ] إيداع الجمال في الظاهر والباطن في كل ماأبدعه وسواه، وهو وحده القادر على رؤية باطن كل شيء وظاهره، قال تعالى: ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )

[22] (الحجر:29)، وقال سبحانه: ( أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) (الكهف:37)، وقال: ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) (الانفطار:7)، وقال: ( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) (البقرة:29)، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات الدالة على شمول لفظ التسوية وعمومه لظاهر الأشياء وباطنها، عموم يشمل دفعة واحدة المكونات الجمالية لهاته الأشياء، إذ إن منطـوق التسوية ومفهومها لا يحيل إلا على الجمال الذي يدعونا الخالق إلى اكتشافه في الآفاق والأنفس، وفي كل مايحيط بالإنسان من كائنات وموجودات.

إن مفهوم "التسوية" بالفهم الذي قدمناه أعلاه، يضعنا أمام حقيقة مهمة يغفل عنها الكثيرون، وهي المتعلقة بفرادة الطرح الجمالي للقرآن الكريم، الذي يستهدف الجمال أنى وجد، ويتتبعه في كل التجليات، حتى [ ص: 91 ] الخفي منها، وهو الأمر الذي نلحظه متحققا بروعة كاملة مع مفهوم "التسوية"، الذي نعتبره مفتاحا لبيان الفرق الظاهر بين المدرسة الجمالية الإسلامية والمدرسة الغربية، التي تحتفي بالجمال، وتتبع الجمال، وتنشد الجمال، وتشيد له الأبراج والتماثيل، لكن من زاوية برانية في الغالب الأعم، الشيء الذي يحتم على دارسي الأدب الإسلامي والمنافحين عنه، الكشف عن هاته المعاني وإبرازها للدارسين والمهتمين، في أفق بناء فهم جمالي قرآني مؤسس على معطيات علمية مؤثثة بالدليل، مقنعة بالبرهان، وموشاة بالجمال، في صياغة أدبية تقدر الجمال، وتدعو إليه، وتربي ذوق الإنسان، وترهف سمعه، ليرى ويسمع ويتملى الجمال، فيعيش على وفقه الإنسان في وفاق تام مع نفسه ومع الكائنات من حوله، وتلك هي دعوة القرآن، وغاية دعوات الرسل والأنبياء عليهم السلام. [ ص: 92 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية