الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
خاتمة

ها نحن أولاء حططنا عصا الترحال في خاتـمة هاته الدراسة، والعين تتشوف إلى ما في جؤنتها من خلاصات، وما انتهت إليه من نتائج وحقائق.

ففي طريق تعرفنا على السمات العامة لـ"علم الجمال الإسلامي"، تتبعنا مفهوم الجمال من خلال التنقير عن أبعاده ودلالاته، وتتبعنا مفاهيمه القرآنية، وصحبنا العلماء والفقهاء والمفسرين والمفكرين والصوفية واستطلعنا آراءهم ومواقفهم ووجهة نظرهم في جماليات القرآن، سعيا منا لتأصيل وتجديد كيفيات التعـامل والنظر إلى هاته الجماليات وفق منظور معرفي، يمتح من الرؤية المعرفية القرآنية والنبوية، وينفتح على معطيات علم الجمال والفن، ويوظف آليات الفلسفة والنقد، ويستعـين على ذلك بكل الأدوات التي تفتل في تقوية حبل الرؤية العميقة لـ"علم الجمال الإسلامي" من لغة وتأويل ودلالة.

وهكذا بينا أهمية الجمال في حياة الإنسان، ووقفنا عند الدور الوظيفي الذي يؤديه، من خلال توسيعه لأفق الحياة، وجعله مفتوحا أمام عوالـم غير متناهية من الإبداع والاجتهاد في العبادات والمعاملات، وتقويته لحوافز الإنسان في مواجهته لمتطلبات الذات وإكراهات الواقع، وتقريب هاته الذات [ ص: 163 ] من جوهرها الإنساني، عبر المواءمة بـيـن أمزجتها وخواطرها الداخلية؛ حفاظا على اتساقها الداخلي واتزانها النفسي والعاطفي، وتنمية لشعورها وذوقها الجمالي، وشحذا له في اتجاه أرقى وأنبل، ليعشق المشترك الإنساني، ويفكر في ما يجمع الناس ويوحد مشاعرهم واتجاهاتهم، ويعمم الخير والفضيلة والسعادة والطهر على الناس، كل الناس.

ومن خلال استقرائنا لمصطلحات الجمال في النص القرآني، تمكنا من تحديد مجموعة من المفاهيم الجمالية، ركزنا على ما اعتبرناه منها محوريا ومحددا للرؤية الجمالية القرآنية، وهكذا وقفنا عند مفاهيم "الجمال" و"الزينة" و"الحسن" و"التسوية"، وتتبعنا دلالاتها في السياقات القرآنية المختلفة التي وردت فيها، ورأينا أنها تشكل منظومة متكاملة من الـمفاهيم لا غنى عنها لمعرفة النسق الجمالي القرآني، الذي يستنفر المسلم ويحفزه بألوان مختلفة من البيان، للبحث عن الحسن أنى وجده في كتاب الله المنظور، ويطالبه بعد ذلك باتخاذ هذا الحسن دليلا له في العبادة والعمل، وفي العلاقات العامة مع أهله ومع غيره، مع تنبيهه إلى عدم الوقوع في شراك الفتن التي خلقت لاختبار إرادته وتمحيص إيمانه، فإذا حياته كلها تستوي على إيقاع الحسن والزينة والجمال، أخذا وعطاء، تمثلا وتطبيقا، قولا وعملا؛ فالمسلم الحق هو من يعيش بالحسن، ويدعوا إليه، وينشره في الآفاق مرددا قوله تعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33). [ ص: 164 ]

إن الحديث عن "علم جمال إسلامي"، يقتضي لزوما التأصيل القرآني لمفاهيمه ومدلولاته، والتقعيد المنهجي له، حتى تتأسس الرؤية الجمالية الإسلامية على مدامك قوية؛ تعصمها من أن تنفلت عن خدمة البعد التوحيدي الذي ينتظمها من كل ناحية.

وهكذا بينا عبر ستة معالـم واضحة، أن القرآن الكريم هو الأساس الذي تستمد منه كليات علم الجمال الإسلامي وأصوله، كما أن التصور الصحيح لهذا العلم لا يتحقق إلا بـمفهوم صحيح لقيم الإسلام وتعاليمه وأفكاره ومنهجه، وهذا يقتضي إخضاعه وتوجيهه لخدمة العقيدة الإسلامية تصورا وأهدافا، تنظيرا وتطبيقا، وتسخيره لأداء أدوار رسالية وإنسانية وأخلاقية، تتجاوز الحدود الإقليمية الضيقة، وتنفتح على الآفاق المفتوحة للكون والحياة. لكن قبل التوجه لتحقيق عالمية الجمال الإسلامي وكونيته، وجب على الدعاة والمفكرين والمثقفـين المسلمين، أن يجتهدوا في إبداع الصيغ الملائمـة التي يمـكنها أن تجعـل من "الجمال" شأنا حياتيا ويوميا، لا يـمكن تصور وجود حقيقي لحياة المسلم بدونه، كما لا يـمكن تحقيق التمكين للأمة الإسلامية في معترك تدافعها الحضـاري مع الأمم، دون العبور عبر بوابة الجمال، بالفهم المتكامل الذي اجتهدنا في تقديمه، عبر صفحات هذا البحث.

هذا الفهم يتلخص في أن "علم الجمال الإسلامي"، يجب أن يتوجه رأسا لبيان الكيفيات الجمالية التي يـمارس بها النص القرآني تأثيره على [ ص: 165 ] متلقيه، بنحو يتجاوز التأثير الظاهري، ليصل إلى أعماق النفس البشرية؛ تصويبا للسقيم من الأفهام وتعديلا لها في اتجاه الصحة والصواب، وتقويـما للخاطئ من السـلوكات وتصحيحا لها في اتجاه الاعتدال والانسجام، وإنهاضا للكال من الهمم، وتقوية للساقط منها في اتجاه السمو والرفعة، وحفزا للخامل من الإرادات وتوجيها لها نحو معالي المطالب وسني المقاصد، وصناعة للباعث على العمل، وصياغة له صياغة سليمة، وتغذية لجذوره ورعاية لها؛ حتى لا يخفت توهجه ولا يبهت تألقه، وحتى يظل في تجدد دائم، ويتعزز بهمة لا تفتر عن التفاعل الإيجابي الدائم مع جماليات القرآن، اكتشافا لها، ومعرفة لآليات تأثيرها وفعلها في النفوس، وتطبيقا لها في واقع الحياة والأنفس، وتأطيرا لحياة الإنسان بالقرآن، حتى يصدر في كل مواقفه وتصرفاته وانفعالاته، عن هدي القرآن، وجميل توجيهه للنفس البشرية، التي لن تتذوق جمالية التعبد، وأنس التعايش، وحلاوة العيش؛ إلا في امتثالها الواعي والطوعي لجماليات القرآن الكريم؛ عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

ونرجو أن يكون هذا البحث لبنة من لبنات اكتشاف المنهج الجمالي في القرآن الكريم، فما كان فيه من توفيق وصواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ وتقصير فمصدره العجز المبذور في الطينة، وأسأل الله بجماله وجلاله، أن يتقبله مني، عربون صدق في خدمة كتابه، وشهادة انبهار بجماله، ودليل خضوع لجلاله، جل الله، ولا إله إلا الله محمد رسول الله. [ ص: 166 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية