الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني

الدكتور / عبد العظيم صغيري

المبحث الثاني

مفهوم "الزينة" في القرآن الكريم

ذكر لفظ "الزينة" باشتقاقاته المختلفة في ستة وأربعين موضعا من القرآن الكريم [1] ، واستعمل في سياقات مختلفة تعكس احتفاء خاصا بهذا المفهوم الجمالي، احتفاء تـمثل أولا في التوظيف المكثف لهذا اللفظ بنسبة تتجاوز خمس مرات تلك التي استعمل فيها لفظ "الجمال"، وتـمثل ثانيا في الـمعاني المختلفة التي استعمل فيها التعبير القرآني هذا اللفظ الذي نلفيه دائم التجوال بين حقول دلالية مختلفة في القرآن الكريم.

يلفت النص القرآني انتباه الإنسان في البداية إلى أن الزينة المبثوثة في الكون هي خلق إلهي ينسبه تعالى إلى نفسه: ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ) (الصافات:6)، ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير ) (الملك:5)، ( فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) (فصلت:12).

ثم إن هاته الزينة ليست مقصورة على السماء وحدها، بل إنها تنتظم الوجود كله، وتدخل في جزئيات الحياة وتفصيلاتها لدرجة يمكن معها [ ص: 57 ] القول: إن هاته الحياة التي نحياها ليست إلا زينة ومتاعا: ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) (الحديد:20)، ومن ثمة فكل مافي هاته الحياة لايخرج عن هاته القاعدة: ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ) (القصص:60).

وزيادة في الإيضاح يورد القرآن الكريم أمثلة من هاته الأشياء التي خلقها الله وزينها لعباده: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (آل عمران :14)، ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) (الكهف:46).

إن الإنسان المسلم بين تبتله في الليل وسبحه في النهار، مدعو بقوة إلى التمتع بزينة الدنيا لأنها خلقت من أجله، أي من أجل إسعاده، ومساعدته على تحمل الأمانة الثقيلة التي كلف بها، من هنا كانت دعوة القرآن لبني آدم صريحة في أن يتزينوا ويتحلوا بحلل الجمال عند قدومهم للقاء اليومي لذي الجلال: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31)، ولا يحـب من حـرم [ ص: 58 ] زينة الله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) (الأعراف:32).

تأسيسا على ماسبق، فإن الله تعالى ما خلق الزينة وأبدعها وأحلها لعباده عبثا، بل لحكمة وتدبير سابق، يريد سبحانه من عباده أن يكتشفوه بالتأمل في هاته الأطباق المختلفة من الزينة، ويدعوهم بأسلوب كله تحبيب وترغيب أن يعملوا نظرهم في هذا الكون الفسيفسائي الجميل: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) (ق:6)، ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ) (الحجر:16)، ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ) [2] (النحل: 8).

غني عن القول إذا: إن إنعام النظر في هاته التشكيلات المختلفة من الزينة، يؤدي إلى معرفة خالقها، معرفة تستدعي تبجيله وتعظيمه، ومن ثم [ ص: 59 ] طاعته وعبادته، وخلافته في الأرض بما يحب ويرضى [3] . ههنا نقف على ملمح لطيف يتعلق بالوظيفة المزدوجة للزينة في القرآن الكريم، فهي دليل على الخالق سبحانه، كما أنها وسيلة للاختبار والتمحيص: ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) (الكهف:7)، ومن العمل الحسن، عدم البعد عن الصحبة الصالحة طمعا في زينة الدنيا: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) (الكهف:28)، فهي إن صـدت المؤمـن عن طاعـة الله تكون: ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) (يونس:24)، تـماما [ ص: 60 ] كما حدث لفرعون الذي لـم يعرف كيف يتمتع بالزينة التي أعطاها الله إياه، فانقلبت الزينة بدعاء موسى، عليه السلام، قبحا وبؤسا: ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) (يونس:88).

أمام هذا الموقف، يصير التوازن في التزين أخذا وعطاء، مطلوبا في مختلف مناحي الحياة، لكن إن أصر المرء على العكس، واختار الزينة وحدها، دونما نظر إلى معطيها، ودون أن يوظفها في الاتجاه الصائب الذي خلقت له، فسيحصل على مايريد، لكن في الدنيا فقط: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) (هود:15)، تـماما كما حصل لقارون الذي صار أمثولة لمن غرته الزينة وطوحت به بعيدا عن الحق: ( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) (القصص:79)، نعم إنه كذلك، لكن بمقاييس البشر الدنيوية التي تشرئب بجبلتها إلى هاته الحظوظ، يستوي في ذلك كل الناس، بدءا بأصغر مكلف، ووصولا إلى من يعيش في بيت النبوة حيث الوحي يتنزل غضا طريا، لتوجيه أمهات المؤمنين وتحذيرهن من شراك الدنيا وزينتها: ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) (الأحزاب:28). [ ص: 61 ]

ولأن العبرة في القرآن الكريم بعموم اللفظ لابخصوص السبب، فإن النساء، كل النساء، معنيات بهذا النداء، إضافة إلى أنهن مطالبات بصيانة الزينة التي جعلهن الله محلا لها، والذود عنها حتى لاتنقلب في أيديهن إلى وسيلة للإغراء والإغواء: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) (النور:24-31) وعليهن بالمبالغة في التستر، والتحوط من إبداء الزينة المؤدية إلى المحذور، حتى ولو كن من القواعد ( اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ) (النور:24-60).

إن مختلف أشكال الزينة تكون جميلة حسب الوصف القرآني إذا وردت في سيـاق التوظيف الإيجابي لهاته الأشكال، لكنها عندما تستعمل للتضليل أو الإغواء تصير "فتنة"، لذلك يمكننا إدراج هذا المصطلح في منظومة المفاهيم الجمالية التي يستعملها القرآن الكريم للقدح في الاستعمال السيء [ ص: 62 ] للجمال والحسن ووضعه في غير الموضع الذي يخدم مقاصد الشارع وأهدافه. قال تعالى: ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) (الأنفال:28) [4] ، وقوله تعالى: ( ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ) (طه:90)، وقوله: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) (طه:131)، وقوله عز وجل: ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) (الأنبياء:35). ومن الخـير الذي نبتلى به: الحسن والجمال؛ قال تعالى: ( وفتناك فتونا ) (طه:40)، والفتـون أيضـا: الافتنان، يتعدى ولا يتعدى، ومنه قولهم: قلب فاتن، أي مفتتن. قال الشاعر:


رخيم الكلام قطيع القيا م أمسى فؤادي بها فاتنا



وفتنته المرأة، إذا دلته، وافتتنته أيضا. وأنشد أبو عبيدة لأعشى همدان:

لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم [5]

نخلص مما سبق إلى أن مصطلح "الزينة" في الاستعمال القرآني، استعمل في سياقات جمالية بديعة تخدم المعنى وتسنده بشكل يؤدي إلى التأثير في السامع، ومن ثم حمله على الامتثال لمضمون الآية إن سلبا أو إيجابا. وقد [ ص: 63 ] رأينا في الأمثلة التي أوردناها آنفا، كيف عمل الخطاب القرآني على تطويع مفهوم "الزينة" لخدمة مقاصده في مخاطبة الخلق، وكيف حافظ على توازن هذا المفهوم الذي وجدناه يخدم دفعة واحدة أهدافا تبدو كطرفي نقيض، لكنها بعد تدقيق النظر تصير هدفا واحدا، يتلخص في أن الزينة باعتبارها متعة جمالية تريح النفس وتبهج العين، يجب أن توظف إيجابيا للوصول إلى غايات نبيلة [6] ، وغاية الغايات هنا هي محبة الإيـمان وتزيينه في قلوب المومنين: ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم [ ص: 64 ] الكفر والفسوق والعصيان ) (الحجرات:7) [7] ، وبهذا يعصم المؤمن من الوقوع في شرك أي توظيف سيء لهاته النعمة [8] . وبذلك تتحقق الفائدة من مصطلح "الزينة" باعتباره مفهوما يؤثث المنظومة الجمالية للقرآن، ويضفي عليها إشراقات بديعة في البيان والتصوير، في انسجام وتكامل مع المفاهيم الجمالية الأخرى التي تخدم الغرض نفسه، لكن من موقع مختلف، كما هو الشأن مع مفهوم "الحسن". [ ص: 65 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية