الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مقدمة

يقول القاضي أبو بكر الباقلاني، رحمه الله:

"ومن أهم ما يجب على أهـل دين الله كشفه، وأولى مـا يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادا ونظاما، وعلى صدق نبيهم صلى الله عليه وسلم برهانا، ولـمعجزته ثبتا وحجة، لا سيما والجهل مـمدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم يقـاسون من عبوسة لقاء الأسد الشتيم، حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه والأخذ في سبله، فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته مكدود في صنعته، فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين، وقد قل أنصاره واشتغل عنه أعوانه وأسلمه أهله؛ فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ماخاضوا فيه عند ظهور أمره؛ فمن قائل قال: إنه سحر، وقائل يقول: إنه شعر، وآخر يقول: إنه أساطير الأولين، [ ص: 23 ] وقالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا، إلى الوجوه التي حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه وتكلموا به فصرفوه إليه" [1] .

رحم الله الباقلاني وأجزل له الجزاء، فقد كفانا بكلامه السابق مؤنة توصيف حال كثير من الدراسات التي تحسب نفسها خادمة للقرآن الكريم وهي أبعد ما تكون عن ذلك، لاشتغالها بقضايا علمية ونظرية، لا تؤهلها لتكـون لأصـل دين الله قواما، ولقاعدة توحيده عمادا ونظاما، ولصدق نبيه صلى الله عليه وسلم برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة. أما دراستنا الموسومة بـ"علم الجمال: رؤية في التأسيس القرآني"، فنـزعم أنها مؤهلة لتحقيق مقدمات ذلك، على الأقل في الصورة التي تجتهد في تقديمها للقارئ الكريم بين دفتي هذا العدد من "كتاب الأمة" الأغر.

ومن أهم مكونات هاته الصورة، إظهار الأبعاد الجمالية المتنوعة للقرآن الكريم، المعلن منها والخفي، الظاهر منها والمضمر، الواضح منها والمستتر، خاصة والساحة الثقافية المعاصرة تشكو من غياب دراسات علمية ومنهجية متكاملة متخصصة في جماليات القرآن، وهو أمر يدعو للدهشة والاستغراب مع تنامي الدراسات القرآنية وتزايد الاهتمام العربي والدولي بالقرآن الكريم والدراسات المرتبطة به، ويزداد هذا الاستغراب عندما نعلم أن الثقافة العربية المعاصرة انفتحت في وقت مبكر على الثقافة الغربية وتابعت مستجداتها، [ ص: 24 ] خاصة تلك المرتبطة بـ"علم الجمال" وفلسفة الفن والأدب والنقد، ومن المفروض أن تهيئ هاته المتابعة الأرضية المنهجية والرؤية الفلسفية الكافية لإنضاج مشروع بل مشاريع فكرية تشتغل على النص القرآني مبرزة جمالياته وموضحة جوانب تميزها وأصالتها، مع التبشير بها في المنتديات العلمية والثقافية المحلية والعالمية، والترويج لها باعتبارها جماليات إنسانية عالمية، تلم شعث الفكر العالمي التائه، وتلملم جراح إنسان القرن الحادي والعشرين الهائم على وجهه، وترجع البشرية إلى رشدها، وتقيمها على جادة الحكمة وفصل الخطاب.

إن كتابنا هذا، مساهمة جادة في هذا السبيل، وهي فضلا عن ذلك تسعى بجد لتقترح نفسها على المهتمين بالدراسات القرآنية، والعاملين في ميادين التربية والتعليم، والمنشغلين بهموم الإصلاح والتغيير، الرافعين لواءه بالقرآن وعلى طريقة القرآن وسنن القرآن وهديه ومنهاجه. نقول ذلك وكلنا يقين في أن واقعنا المعاصر لفي مسيس الحاجة إلى تربية ذوقية فنية، ترهف حس المسلم بمواطن الجمال القرآني، وتوجه مسير الأمة لتمتح من القرآن وتربي الأجيال على تذوق جمالياته، لتنتقل بها إلى ساحة الفعل الراشد في الواقع، والتغيير السلمي السليم المقتفي أثر الرسول الكريم، الملتزم بسنته وهديه الشريف صلى الله عليه وسلم .

إن الوصـول إلى تصور متكامل لـ "علم الجمال الإسلامي" يحتاج منا إلى بيان واضح لماهية "الجمال" في القرآن الكريم، وتفصيل مستفيض [ ص: 25 ] لتجلياته في واقع الناس وأنفسهم، واستقصاء شاف لمجالات هذا الجمال وأبعاده المختلفة، وتدقيق في المقاصد التي يستبطنها هذا الجمال ويستهدفها، دون إغفال لبيان الأسس المعرفية المؤطرة لهذا العلم، والكشف عن الملامح العامة للرؤية الجمالية القرآنية، التي نستشرف عبرها آفاق الجمال والجلال في كتاب الله تعالى.

تحقيقا لذلك، قسمت هاته الدراسة إلى أربعة فصول، خصصت الأول منها لاستـعراض المفاهيم القرآنية لـ"علم الجمال الإسلامي"، وحددتها في مفهـوم "الجمـال" و"الزينة" و"الحسن" و"التسـوية"، لأخـلص إلى تحديد الرؤية الجمالية في القرآن الكريـم، عبر خلاصة تركيبية لها في الفصل الثاني.

وجاء الفصل الثالث من هاته الدراسة، ليبين ملامح "علم الجمال الإسلامي"، بين الهدي النبوي واجتهادات علماء الإسلام، من خلال الحديث عن الجمال في الهدي النبوي دعوة وتطبيقا (المبحث الأول)، وإظهار المقاربات التي تناول بها علماء الإسلام الجمال (المبحث الثاني).. أما الفصل الرابع، فقد أفردته للحديث عن الإشكالات المرتبطة بتقعيد وتأصيل علم الجمال الإسلامي، وقد وسمته بـ: "علم الجمال الإسلامي، مساهمة في التأصيل والتجديد"، وقد اهتديت فيه بفضل الله وحسن توفيقه، إلى تحديد ستة معالـم، رأيت أنها كفيلة بضبط هذا العلم وتأطيره ، تصورا وتطبيقا، أهدافا وغايات. [ ص: 26 ]

بقي أن أشـير في هاته المقـدمة إلى ثلاثة ضوابط، كانت من الهواجس الأساسية التي رافقتني في هذا البحث، وأجمل الحديث عنها في النقط الآتية:

أ- تعمدت الإكـثار من التساؤلات، بخلفية معرفية واضحة، وعملت على تنويعها وصياغتها بأساليب مختلفة من الطرح والتناول، ولـم يكن ضروريا أن أجيب عنها كلها، فقد كان هدفي ومبتغاي في أحيان كثيرة؛ الوصول إلى نحت أسئلة تتضمن قضايا تستفز القارئ وتنبهه إلى مواطن منسية من التفكير والنظر، لإيـماني بأهمية السؤال في إنتاج المعرفة؛ فكم فتحت لي هاته الأسئلة من فتوحات وبصائر ما كنت لأطل عليها لولا مفاتيح السؤال، التي ألهبت حماس الفكر وشحذت همة النظر لمواجهة عناد الأسئلة، خاصة ما عصي منها عن الحل، وما ند منها عن الفهم، وما تـمنع منها عن إسلاس القياد.

ب- أعملت نظري النقدي في النصوص التي تعاملت معها، والأفكار التي تطرقت إليها، ولـم أكن أسلم بكل ما أجـده من أطاريح وأفكار، إلا بعد عرضها على مشرحة النظر والتأمل، ومقابلتها مع الأفكار التي تعارضها في المنهج وكيفيات الطرح والتناول. وقد بذلت جهدا غير يسير في الكشف عن المرجعيات والأصول الفكرية والفلسفية التي يصدر عنها أغلب من تعاملت معهم في هاته الدراسة، من العلماء والفقهاء والمفكرين، سواء كانوا من المدرسة العربية والإسلامية أو الغربية، وفي كل ذلك التزمت [ ص: 27 ] مقاييس العلماء في التعديل والتجريح، فحفظت للعلماء حرمتهم، ورفضت بأدب ماترجح لدي خلافه من آرائهم وأقوالهم.

ج- اجتهـدت في توثيق النصـوص التي أستشهد بـها، والإحالة على مصـادرها، بـما يتطلبه ذلك من الدقة والضبط، ولـم أذكر في مسرد المصادر والمراجع كل المظان التي أحلت عليها في حواشي البحث، رغبة في عـدم إثقاله بتفاصيل شكلية، لا تخدم الغرض منه، ولا تضيف كبير فائدة إليه.

لقد كان اعتمادي في هاته الدراسة كبيرا على كتب التفسير وعلوم القرآن، القديم منها والحديث، إضافة إلى مصنفات الحديث النبوي الشريف وكتب الإعجاز، فضلا عن كتب اللغة ومعاجمها المعتبرة، ودواوين الشعر العربي؛ التي كنت أتعقب فيها الرؤية الجمالية للعرب والمسلمين، لأنفتح على جديد "علم الجمال" في الثقافة العربية المعاصرة، مع دراسة الكتب التي تخصصت في "علم الجمال الإسلامي" وحاولت التنظير له.

لقد عكفت على دراسة هاته الكتب، وقلبتها من أوجه متعددة، واستوعبت مضامينها ومقترحاتها، وعملت على أن تكون دراستي هاته امتدادا لـما أثلته من مواقف، ومشروع إجابة لـما توقفت عنده من إشكالات وقضايا، وتتميما لـما أغفـلـته أو سكـتت عنه من تطبيقات جمالية في القرآن الكريم، استفرغت وسعي في أن أكشف عن بعضها في هاته الدراسة بإذن الله وقوته. [ ص: 28 ]

تحقيقا لذلك، ألزمت نفسي بالـمـحافظة على مسافة فاصلة بيني وبين ما أطالعه من رؤى وأفكار وأطاريح، في مختلف المصادر والمراجع التي تعاملت معها، رغبة في أن يكون حضوري الشخصي قويا في ثنايا هاته الدراسة، فقد كنت أتعقب النصوص والأفهام، وأجوب التفاسير والمصنفات لأهتدي إلى فكرة، أو إلى جزئية في فكرة، أو إلى مشروع فكرة، وقد تطول الأيام ولا يجود الخاطر بشيء من النظر، وإذا جاد مرة يبس مداد الكتابة في يدي مرة أخرى، فإذا بي أهاب الإقدام على الصفحات البيضاء، فأعيد الكرة مرارا، وقد أمحو ما كتبت، بعد تقليب النظر فيه، وقد أصرف النظر بالكلية عن فصول بل أبواب كنت قد سودتها في التصميم، بعد أن بدا لي في منتصف المسير أن الأمر يقتضي تعديلا أو اختصارا أو دمـجا أو حذفا، وفي هـذا ما فيه من المعـاناة والمكابدة، لكنها بحمد الله تهون بصحبة كتاب الله، فمن كان بإزاء هذا الكتاب، انقلب سهره فسحة، وتعبه راحة، وهمه فرحا، وعسره يسرا، ومعاناته رياضة ومتعة.

ذاك حالي أثناء كتابة هذا البحث، وتلك بعض سمات مرحلة أعتز فيها بالأنفاس التي قضيتها مع "جمالية التأثير القرآني"، في خلوة علمية ممتعة، أحتسبها لله تعالى، وأقدمها بين يديه سبحانه، عربون تذلل خاشع بين يدي جماله وجلاله سبحانه.

ثم إن الأمر لـم يتوقف عند هذا التعب وذاك النصب، بل إنني وجدت نفسي في مواجهة مباشرة مع إشكال نظري ومعرفي مركب، يفرض علي [ ص: 29 ] معالجة مضامين هاته الدراسة استنادا إلى مرجعيات ثلاث تتطلبها الطبيعة المعقدة لمثل هاته المواضيع، بدءا بالأدب والنقد والفن، ومرورا بالدراسات الإسلامية في انفتاحها على الدراسات الجمالية وعلم الجمال، وما يقتضيه ذلك من وقـوف عنـد الأدب الإسـلامي ومستجـداته، وانتهاء بالفلسفة وإشكالاتها المرتبطة بفلسفة الجمـال وخلفياته المعرفية المتنوعة، وهي كما لا يخفى قضايا نظرية صرفة، تتطلب استدعاء معارف فلسفية تـمتح من مرجعيات فكرية متنوعة، وتصدر من مدارس واتجاهات مختلفة المشارب والموارد.

أعترف أن هذا الأمر شكل لي في البـداية تحـديا قويا، لـم أتجاوزه إلا بصعوبة بالغة، وأرجو أن تكون هاته الدراسة إضافة مفيدة للساحة الثقافية العربية والإسلامية، التي تعاني من نقص مهول في الكتابات الجمالية، خاصة المتخصصة منها في علم الجمال الإسلامي وتطبيقاته القرآنية.

والله أسأل التوفيق والسداد، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات. [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية