مفهوم "الجمال" في القرآن الكريم
وردت كلمة "الجمال" في كتاب الله عز وجل في ثـمانية مواضع [1] كالآتي:
1- جاءت وصفا للإبل في قوله تعالى: ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) (النحل:6).
2- وجاءت وصفا للصبر في ثلاثة مواضع، في موضعين من سورة يوسف على لسان سيـدنا يعقـوب، عليه السلام، في قوله تعالى: ( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) (يوسف:18) ثم في قوله عز وجل: ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو [ ص: 33 ] العليم الحكيم ) (يوسف:83)، وفي موضع ثالث في سورة المعارج: ( فاصبر صبرا جميلا ) (المعارج:5).
3- ووردت وصفا للصفح في قوله تعالى: ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ) (الحجر:85).
4- ووردت نعتا للتسريح في قوله تعالى: ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) (الأحزاب:28)، ثم في قوله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) (الأحزاب:49).
5- ووردت نعتا للهـجر في سـورة المزمـل في قـولـه تعالى: ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) (المزمل:10).
لا خلاف في أن العين هي الوسيلة الأكثر اشتراكا بين بني البشر في تملي الجمال وتذوقه، يستوي في ذلك العالم والجاهل، الفنان ذو الذائقة المرهفة والإنسان العادي الذي لا يأبه بالمشاهد الجميلة إلا إن بلغت حدا يملك عليه لبه وعقله، لذلك فالله تعالى يـمتن على عباده جميعهم بأن خلق لهم من الكائنات ما به ينتفعون حسا ومعنى، فقال: ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين [ ص: 34 ] تريحون وحين تسرحون ) [2] - [3] - [4] - [5] (النحل:5-6)، فجمال هاته الإبل باد للعيون في حالتي الغدو والرواح من وإلى المرعى، لكن التعبـير القرآني قدم حـالة الرواح على السراح للتنصيص على التفاتة جمالية مؤداها أن الأنعام [ ص: 35 ] حالة رواحها إلى مباركها تكون أجمـل وأنضر، وإلى هذا المعـنى يشـير السيوطي، رحمه الله، بقـوله: "فإن الجمـال بالجمـال وإن كان ثابتا حالتي السراح والإراحـة إلا أنها حالة إراحتـها وهـو مجيئها من الرعي آخر النـهار يكون الجمال بها أفخر، إذ هي فيه بطان، وحالة سراحها للرعي أول النهار يكون الجمال بها دون الأول إذ هي فيه خماص" [6] ، فالإبل بعد امتلاء بطونـها بالطعام: "تكون أمده خواصر، وأعظمه ضروعا، وأعلاه أسنمة" [7] .
وعليه، فجمال الإبل في الرواح أكثر: "لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح، فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والانتشار، فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح؛ ووجـه التجمل بـها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغـداة تزينت عند تلك الإراحة، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها" [8] . [ ص: 36 ]
إن المتتبع لأغلب التفاسير التي وقفت عند الدلالات الجمالية لهاته الآية يجد أنها لا تخرج عن الدلالات نفسها التي أشار إليها الطبري
[9] ، [ ص: 37 ] والسيوطي وابن كثير والرازي، رحمهم الله، بل إن عبارات المفسرين، رحمهم الله، تكاد تتطابق في الصياغة والمعنى، مع بعض الإضافات المهمة التي نلفيها منثورة في هذا السفر أو ذاك.
ويرى بعض المفسرين أن "الجمال" ليس ضروريا لحياة الإنسان، ويستشهدون بقوله تعالى:
( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) (النحل:5-6)، ويرون أن الله تعالى بدأ بذكر ما هو ضروري لحياة الإنسان مثل استفادته من صوف الأنعام للباسه، ولحمها لأكله، ولبنها لشربه، ثم بعد ذلك نبه على ما ليس ضروريا، وعنوا به جمال الأنعام وحسن منظرها.
يعد "ابن عادل" [10] من أبرز من قال بهذا الفهم في تفسيره "اللباب"، يقول، رحمه الله، موضحا وجهة نظره: "ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال : ( لكم فيها دفء ) وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه: [ ص: 38 ]
( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) (النحل:80)، والمعنى: ملابس ولحفاء يستدفئون بها، ثم قال: ( ومنافع ) ، والمراد ما تقدم من نسلها ودرها. ثم قال: ( ومنها تأكلون ) ، وأما المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمور، وعد منها قوله تعالى: ( ولكم فيها جمال ) [11] .
إن هذا القـول يبـدو في نظرنا متهـافتا بالنـظر إلى ما قدمناه وإلى ما سيأتي بيانه من احتفـاء ملحوظ للقرآن الكريـم بالجمـال، احتفاء يبوئه مقام الحاجة الضرورية لا التحسينية للإنسان، يضاف إلى ذلك أمور نجملها في الآتي:
- أولا: قلة من قـال بقـول "ابن عـادل" من العلماء والمفسرين كما سيأتي، وعلى القول بوجودهم فعددهم غير معتبر بالنسبة إلى غيرهم من المفسرين المعتبرة أقوالهم والمشهود لها بالاعتبار.
- ذكرت الآية "الجمال" بين عدة ضرورات، فتحدثت عن فوائد الأنعام من لباس وطعام وشراب، ثم أشارت إلى جمالها لتستأنف الحديث عن بقية الفوائد التي اعتبرها "ابن عادل" ضرورية، وهي المتمثلة في حملها [ ص: 39 ] للأثقال والتخفيف من وعثاء السفر ومشاقه. فيكون الجمال بهذا الاعتبار ضرورة لذكره محصورا بين ضـرورات أخرى، والأكيد أنه لو لم يكن منها لما ذكره التعبير القرآني ضمن هذا السياق ووفق هذا النسق الدال والمعبر، وعليه يكون القائل بخـلاف هذا القـول مخالفـا للنص القرآني في كونه لا يخضع المفاهيم والمعاني التي يتضمنها لترتيب منطقي مقصود ومراد، وهذا ما لا يقول به أحد.
- كثرة الشواهد والنصوص القرآنية التي تؤكد أن الجمال مطلب أساسي لحياة الإنسان، بل هو وسيلته للتعرف على جلال الله وعظمته، وبنسبتها تعظم الأشياء وتشرف، وإذا كانت معرفة الله ضرورية، فطبيعي أن يكون كل ما يؤدي إليها أو يساعد عليها ولو بمثقال ذرة، ضروريا ومؤكدا.
مع ذلك، وجب التنبيه على هذا الحضور القوي للحس الجمالي عند المفسرين في تناولهم لهاته الآية، يدل على ذلك استعمالهم المكثف للمفاهيم ذات الدلالة الجمالية البارزة [12] بـمعنى أنهم لم يقفوا عند عتبة الكلمات ومعانيها، بل تعـدوها للـكشف عن التجليات الجمالية التي تسكن خلفها [ ص: 40 ] في مسـعى نعتبره متقدما بالنظر إلى الفترة الزمنية التي أطرت فهمهم للجمال وتجلياته.
لبيان ذلك نورد مثالا لتفسيرين تفصل بينهما مسافة زمنية تقارب سبعة قرون، كلا التفسيرين وقف عند الآية نفسها التي نحن بصدد تجلية مضامينها الجمالية، فانقدحت في نفسي صاحبيهما آثار الجمال، فراحا يدونانها مؤكدين تكامل الذوق بين السلف والخلف على الرغم من بعد الشقة الزمنية وما يستتبعه من تغيرات في الأذواق والأفهام.
- التفسير الأول، للعلامة القرطبي، رحمه الله (ت671هـ) [13] ، قال في تفسيره لقوله تعالى:
( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) (النحل:6): "قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال؛ فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القـلب متـلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر.
وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر [ ص: 41 ] عنهم. وجمال الأنعام [14] والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار [ ص: 42 ] موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم فلان، ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها، لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درهـا وسرور النفس بـها إذ ذاك والله أعلم" [15] ، وقد استثمر، رحمه الله، في كلامه هذا أقوال المفسرين المتقدمين عليه.
- أما التفسير الثاني فهو للشهيد سيد قطب، وفيه يرى، رحمه الله، أن الجمال المقصود في الآية هو جمال الاستمتاع بـمنظر الإبل فارهة رائعة صحيحة سمينة، سواء في حالة الغدو أو الرواح، ويرى، رحمه الله، أن أهل الريف أقدر على إدراك هذا الجمال: "بأعماق نفوسـهم ومشاعرهم أكثر مما يدركه أهل المدينة" [16] ، ليعقب قائلا: "وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة. فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب؛ بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات، تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان" [17] ، وهذا فهم رائد للآية قصر عنه المتقدمون. [ ص: 43 ]
إن مشاهد الجمال لا تنحصر في الأنعام، ليقيننا أن التعبير القرآني قدمها في الذكر لحميميتها عند الإنسان العربي في شبه الجزيرة العربية، ولارتباطه الدائم بها في حله وترحاله، فكانت دعوة القرآن لتملي الجمال واكتشافه تنطلق من أقرب الأشياء إلى الإنسان وأكثرها التصاقا به، ومن ثم دعوته لإعمال فكره وذوقه في هذا الكون المليء بالمشاهد الجميلة بدءا من نفسه ( وصوركم فأحسن صوركم ) مرورا بما حوله من مخلوقات، عددها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، و منها أنعام اعتبر تسخيرها وجمالها من رحمة الله بالإنسان، لقوله تعالى: ( إن ربكم لرءوف رحيم ) ، ثم فتحت آفاق الجمال على مصراعيها حتى لا تبقى محصورة في صنف بعينه، فقال سبحانه مباشرة بعد هذه الآية: ( والخيل والبغال ) ، وهنا مرة أخرى نلمح هذا التنصيص على الـتوصيف الجمالي بقوله عز وجل: ( وزينة ) ، بل إن النص القرآني لا يكتفي بـهذا القدر من توسيع المدارك وفتح الأبواب أمام الإنسان لارتياد مظان جـديدة للجمـال ومعرفة موارده، بل يلمـح في رمزية شفـافة إلى أن هاته الموارد وتلك المظـان لا تنتهي: ( ويخلق ما لا تعلمون ) ، في سياق يسمح لنا بالقول: إن المعنى المقصود من الآية -لأن السياق يتحمله - أن الله تعالى مستمر (فعل المضارع "يخلق" الدال على الاستمرار والتجدد) في خلق ما لا نعلم من المشاهد والمخلوقات بل والمواقف والآيات الجميلة التي نحن مدعوون لتأملها على الدوام، فإذا كان الخالق مستمرا في هذا الإبداع، فالإنسان - باعتباره مكلفا- ملزم [ ص: 44 ] باستصحاب هذا الإبداع والخلق الإلهي المبدع باكتشافه وتدبره، حتى تبقى جذوة الإيمان مشتعلة، وتتوثق الـمـحبة لهذا الخالق بتوثق الصلة بالأشياء الجميلة التي تفاجئ الإنسان بين الفينة والأخرى في مسيرة حياته، مسيرة يمكن اختصارها بكونها فترة لإماطة اللثام عن جمال الكون رغبة في التقرب من مبدعه ومنشئه، باعتبارها خطوة أولى وأساسية لاكتشاف الجمال الحقيقي في الآخرة التي فيها: ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) [18] ، بهذا الشكل يكون تذوق الجمال الدنيوي والاستمتاع به مقدمة ضرورية لطلب الجمال الأخروي الخالد، وبذلك نكون قد وضعنا اليد على ملمح مهم من ملامح التصور الجمالي القرآني الذي يجعل المطلب الجمالي موصولا بين الدنيا والآخرة.
كأني بالآية الكريمة تنادي الإنسان وتستحثه أن: لا تقف عند هذا المستوى من إدراك الجمال في ما حولك من دواب وهوام، فهناك مجالات أرحب وأوعب، ارتدها، ابحث عنها، وتمتع بها، ففيها وبها الهداية التي تنشدها وتبحث عنها.
من هاته المجالات ما يرتبط بشعور الإنسان وإحساسه في المواقف التي تفرضها عليه مكابدته للمعاش، ومعافسته للأهل وكده في سبيل توفير عيش كريم لولده، ومنها ما يرتبط بعلاقاته، ومخالطته لبني جنسه في الكسب [ ص: 45 ] والنسب والمصاهرة وشتى صنوف التعامل المادي والمعنوي. وهذا ما يصوره التعبير القرآني بشكل بديع في المواقف التالية:
الموقف الأول لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه نلفي حبيب الله في مشاهد مختلفة تهيمن عليها أجواء الحزن بما جنت أيدي الناس وكسبت أفعالهم القبيحة. في المشاهد جميعها لا مفر لنبي الله إلا أن يلوذ بالصبر الجميل والتسريح الجميل والهجر الجميل والصفح الجميل.
إن الإصرار على إضافة الجميل إلى عبارات الصبر والتسريح والهجر والصفح له أكثر من دلالة، يكفينا منها هنا أن الجمال إذا أضيف إلى أي شيء مهما كانت حدة خطورته يلين و يخف، فإذا الموقف الانفعالي المتوتر غير خارج عن السيطرة، وإذا كيد القريب والبعيد ينقلب عليه، وإذا تدبير العدو يتحول إلى نصر وتأييد، وإذا عدم رد الفعل يكون أجدى وأنفع من رد الفعل:
( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت:34).
يهدينا هذا المعنى إلى القول: إننا إذا ضبطنا تصرفاتنا ومواقفنا وانفعالاتنا وجعلناها خاضعة لمؤشر الجمال، فإنه سيحولها من السلب إلى الإيجاب، من الدمار إلى البناء، من التشتيت إلى التجميع، فإذا الهجر باعتباره موقفا انفعاليا يدل على السخط والتذمر، ينقلب آلية للصلح ووسيلة لا غنى عنها لتقويم أي اعوجاج في سلوك الزوجة الناشز، وإذا التسريح باعتباره دعوة للفراق [ ص: 46 ] وتشتيتا للشمل، يصير أداة لاتقاء الأسوأ وتجنب الفادح من التصرفات والأقوال التي تنجم عادة عن الجمـع القسري لزوجـين غير منسجـمين، لا مودة تجمعهما، ولا رحمة تطيل حبل عشرتهما. وإذا الصبر الذي ينـزل على النفس ثقيلا، ثقالة السبب الذي أنشأه، يتحول إلى منهج لاستيعاب الصدمة بغية استدماجها كشرط ضروري لتجاوزها والانتصار على تبعاتها القاتلة، وإذا العفو الذي يظن أنه صادر عن ذات ضعيفة لـم تقدر أن تنتصف لنفسها ينقلب أداة لتوبيخ الآخر وإيلامه لدرجة إكراهه معنويا على طلب العفو والمغفرة.
هـاته المعـاني تتجـلى بوضـوح في مشـاهد مختـلفـة يطلب فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفح [19] تارة: ( ... وما خلقنا السماوات والأرض [ ص: 47 ] وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل )
[20] (الحجر:85)، والصبر أخرى:
( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) (المزمل:10)، ( فاصبر صبرا جميلا ) (المعارج:5)، ويوجهه تارة أخرى عند تخيير أزواجه أن يسرحهن سراحا جميلا إن هن اخترن الدنيا وزخرفها: ( يا أيها [ ص: 48 ] النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) (الأحزاب:28)، كما يؤمر عامة المؤمنين بسلوك السبيل نفسه عند تطليق النساء دون الدخول بهن: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) (الأحزاب:49).
- الموقف الثاني لنبي الله يعـقوب، عليه السـلام، الذي ابتلي بـلاء لا يخفف من وقعه الشديد إلا التحلي بالصبر الجميل، فقد فقد أعز أبنائه وأقربهم منـزلة إلى قلبه: نبي الله يوسف، عليه السلام. فما كان من الأب المكلوم إلا أن فوض أمره إلى الله وقال: ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) (يوسف:18) [21] ، فصار قوله هذا يتردد في كل المواقف الشبيهة التي لا تنفع فيها الحيلة ولا البيان، لذلك أثر عن أمنا عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت في حادثة الإفك: "إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا (أي اتهامها بالزنا)، حتى استقر في أنفسكم، حتى كدتم أن تصدقوا به، فإن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة [ ص: 49 ] لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف [22] : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) [23] .
إن وصف الصبر ووسمه بسمة الجمال فيه أكثر من دلالة، إذ الصبر الذي يستحق أن يوصف بالجميل هو صبر "ليس فيه جزع "
[24] ، ويكون ذلك بـ: "السكون إلى موارد القضاء سرا وعلنا" [25] ، كما قال الألوسي، رحمه الله، أو بـ: "تلقي البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر " [26] ، وفي هاته الحالة: "يلقي العبد عنانه إلى مولاه ويسلم إليه نفسه مع حقيقة المعرفة، فإذا جاء حكم من أحـكامه ثبت له مسـلما، ولا يظهر لوروده جزعا ولا يرى لذلك مغتـما"، كما قـال الترمـذي، رحمه الله [27] ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال: ( هو الذي لا شكوى معه ) [28] ، لأن [ ص: 50 ] حالة التجمل بالصبر تحول بين الإنسان والشكوى، فإذا هو راض بالقدر في غير ما جزع ، متحمل للبلوى دون تذمر أو تأفف، قال الثوري، رحمه الله: "من الصبر ألا تحدث بوجعك، ولا بـمصيبتك" [29] ، فما الفائدة من التشكي إذا لـم يأت بنتيجة؟:
ومن جرب الشكوى فلم يجن طائلا أقر على الصبر الجميل قراره
[30]بهذا المعنى، يحول التعبير القرآني مفهوم "الصبر" من اعتباره مجالا للمعاناة والقسوة، وإطارا لتدمير الذات وإفناء الإرادة، إلى مجال جمالي يسلي به الإنسان عن أحزانه، ويخفف به من وطأة المشاكل التي تجثم على صدره. بل إن الصبر الجميل يتحول إلى وسيلة تربوية مهمة في التأثير، تجعل المؤمن في تماس حقيقي مع إيمانه، واختبار فعلي لمدى صدقه في الخوف من الله والرجاء فيه، يتحقق ذلك ويتعمق في نفسه عندما يرى أن الصبر الجميل في بعده التربوي لا يخرج عن الدلالات الثلاث الآتية: [ ص: 51 ]
الدلالة الأولى: يكون صبر المؤمن على البلاء جميلا: "إذا عرف أن منزل ذلك البـلاء هو الله تعـالى، ثم يعلم أن الله سبحـانه مالك الملك، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه، فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا له من إظهار الشكاية" [31] .
الدلالة الثانية: يتحقق الجمال في صبر العبد على البلاء إذا علم: "أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهـل، وعالـم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصوابا، فعند ذلك يسكت ولا يعترض" [32] .
الدلالة الثالثـة: يتجـلى الصبر الجميل للمـؤمن عندما يتيقن أن هذا البلاء من الحق سبحانه، فيستغرق في مشاهدة نور الـمبلـي، استغراقا يمنعه من الاشتغـال بالشـكاية عن البلاء، ولذلك قيل: "الـمحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان الـمحبوب هو النصيب والحظ، وموصل النصيب لا يكون محبوبا بالذات بل بالعرض" [33] .
عند هذا المستوى، تصير الحدود بين الصبر والصابر ضيقة، بل إنها تنمحي ليحدث التماهي بينهما فإذا هما سيان: [ ص: 52 ]
عبرات خططن في الخد سطـرا قد قراها من ليس يحسن يقرا
إن موت المحب من ألم الشـو ق وخوف الفراق يورث عذرا
صابر الصبر فاستغاث به الصبـ ـر فصاح المحب بالصبر صبرا
إن هذا المعنى اللطيف الذي عبر عنه "الشبلي" يكشف لنا عن ملمح جمالي آخر في "الصبر الجميل"، وهو المتمثل في الطاقات المعنوية التي يكسبها للمتحلي به، فإذ إرادته بعد الكلل قوية، وإذا همته بعد الفتور يقظة، وإذا العـزم منه لايعرف للعجـز معـنى، ولا للهـوان مغنى. لكن مع ذلك، ألا يـمكن الحديث عن "صبر قبيح"؟
الجـواب: نعم "إذا كان الصبر ليس لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه، بل كان لسائر الأغراض" [35] ، لذلك قال يعقوب، عليه السلام: ( والله المستعان على ما تصفون ) (يوسف:18) مباشرة بعد قوله: ( فصبر جميل ) ، في إشارة إلى أن الصبر لايكون جميلا إلا في مرضاة الله، ولا يكون كذلك إلا إذا أعان الله المؤمن على هذا الفهم ووجهه إليه وأعطاه الطاقة الكافية على التحمل والصبر: "وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية، والدواعي الروحانية تدعو إلى الصبر الجميل، فكأنه [ ص: 53 ] وقعت المحاربة بين الصفتين (أي صفة الجزع والصبر الجميل)، فما لـم تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة للصبر الجميل على الجزع، فقوله: ( فصبر جميل ) ، يجري مجرى: ( إياك نعبد ) (الفاتحة:5)، وقوله: ( والله المستعان على ما تصفون ) يجرى مجرى: ( وإياك نستعين ) [36] .
في ضوء هاته المعاني، توجب علينا رد كل الأقوال التي رأت أن صبر يعقوب، عليه السلام، في مقام الظلم مذموم عقلا وشرعا [37] ، نرد هذا القول لأنه نقض صريح لدلالة الصبر الجميل الوارد في الآية، إذ لو كان صبر سيدنا يعقوب مذموما حقا في هاته الحالة لاستحق أن يوصف بالقبيح، وهو مالـم [ ص: 54 ] تقل به الآية الكريـمة، لأن صبره، عليه السلام، كان في قمة الجمال، فقد: "عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء، وأنهم لا يـمكنونه من الطلب والفحص، وأنه لو بالغ في البحث فربـما أقدموا على إيذائه، وأيضا لعلمه، عليه الصلاة والسلام، أن الله تبارك وتعالى سيصون يوسف، عليه الصلاة والسلام، عن البلاء والمحنة، وأن أمره سيظهر بالآخرة، ولـم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم أخاه وقع أبوه في العذاب الشديد؛ لأنه إذا لـم ينتقم؛ يحترق قلبه على الولد الـمظلوم، وإن انتقم احترق قلبه على الولد المنتقم منه، فلما وقع يعقوب في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكون، وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى" [38] .
بقيت الإشارة في نهاية هاته الفقرة إلى أن أقوالا مثل التي أوردتها أعلاه، تفرض علينا تحديا كبيرا يتمثل في ضرورة العمل على اجتراح آليات جمالية جديدة في تفسير القرآن الكريم، من أبسط مقتضياتها: رفض كل المعاني والتأويلات التي تتعارض وجمالية القرآن، أو تلك التي تشوش على نصاعة الرؤية الجمالية القرآنية في الكلمة والتركيب، أو في المعنى والسياق [ ص: 55 ] على حد سواء [39] ، ونعتقد أننا بهذا الاقتراح المشفوع ببعض الاجتهادات المتواضعة بهذا الصدد،نكون قد فتحنا الباب- وإن بشكل محتشم- أمام عمل يـمكن أن يكون مقدمة لتفسير جمالي غير مسبوق للقرآن الكريم، نسأل الله أن يهيئ له من ينهض به من العلماء والمفكرين. [ ص: 56 ]