الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

علم الجمال رؤية في التأسيس القرآني

الدكتور / عبد العظيم صغيري

المبحث الثاني

علماء الإسلام والجمال

في المبحث السابق، رأينا كيف عملت التربية الجمالية للنبي صلى الله عليه وسلم ، على صياغة الذوق الجمالي الرفيع عند الصحابة الكرام، وتتبعنا الحضور القوي للحس الجمالي في العصر النبوي. في هذا المبحث نقف عند مجموعة من العلماء في مرحلة ما بعد النبوة لنرى الكيفيات التي تعاملوا بها مع موضوع الجمال، حضورا وغيابا، قوة وضعفا، فهما وتطبيقا.

وأول ملاحظة نظفر بها في هذا الصدد، هي أن التابعين، رضي الله عنهم، حافظوا في ذوقهم الوجداني على التوهج نفسه الذي رأيناه عند الصحابة الكرام، بشكل نلمس فيه امتدادا لسلوكات جمالية تتكرر، في سياق إيـماني يجعل الجمال قرينا ورديفا للعبادة، فقد كان الحسن البصري (ت110 هـ/728م)، رحمه الله، مثلا، إذا أراد الذهاب إلى المسجد تزين [ ص: 124 ] وتطيب ورجل شعره [1] ، فلما سئل في ذلك قال: أتجمل لربي وتلا الآية: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (الأعـراف:31)، وكان أبو حنيفة (ت150هـ/767م)، رحمـه الله، إذا قام لصـلاة الليل، اتخذ لها لباسـا خاصـا، وهو قميص وعمـامـة ورداء وسـراويل، بقيمة ألف وخمسمائة درهم، يلبسه كل ليلة، ويقول: "التزين لله تعالى أولى من التزين للناس" [2] .

بعد أبي حنيفة بثلاثة قرون، سيعرف علم الجمال الإسلامي، تطورا نوعيا مع الإسهامات العميقة لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، رحمه الله (ت505هـ)، الذي استعمل مفهوم الجمال ووظفه بشكل دقيق، في شرح أسرار المحبة الواجبة بين العبد وربه، وهي محبة مبنية على جبلية الانجذاب البشري للجمال وفطريته: "وهو حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال فذلك مجبول في الطباع" [3] .

تأسيسا على ذلك، يرى الغزالي، رحمه الله، أن ثنائية الحسن والقبح تنطبق على كل المدركات التي تتفاوت في ما بينها بحسب توفرها على [ ص: 125 ] شروط الجمال من عدمه، وعليه فجمال كل شيء وحسنه: "في أن يحضر كماله اللائق به الممـكن له، فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة، فهو في غاية الجمال، وإن كان الحـاضر بعضها، فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر؛ فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس، من هيئة وشكل ولون وحسن عدو وتيسر كر وفر عليه، والخط الحسن كل ما جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها، ولكل شيء كمال يليق به، وقد يليق بغير ضد، فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به، فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس، ولا يحسن الخط بما يحسن به الصوت، ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب، وكذلك سائر الأشياء" [4] .

لذلك فإن الجمال الكامل هو جمال الله تعالى، فـ: "لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالـم إلا وهو حسنة من حسنات الله وأثر من آثار كرمه، وغرفة من بحر جوده. سواء أدرك هذا الجمال بالحواس أم بالعقل. وجمال الله سبحانه وتعالى أكمل الجمال" [5] ، لذلك فإنه لا يدرك إلا بالقلب: "واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال والله تعالى جميل يحب الجمال ولكن الجمال إن كان بتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر، وإن [ ص: 126 ] كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أدرك بحاسة القلب" [6] .

في السياق ذاته، سيأتي ابن قيم الجوزية (ت 751هـ/1350م) بعد الغزالي بقرنين، لينسج على المنوال ذاته [7] ، ويبين في كتابه الممتع أن: "من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال" [8] ، ويعقد لبيان ذلك فصلا [ ص: 127 ] خاصا من كتابه "الفوائد"، وفيه يبين أن معرفة الله بالجمال: "هي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله، سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه، ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته، فما الظن بـمن صدر عنه هذا الجمال، ويكفي في جماله أنه له العزة جميعا، والقوة جميعا، والجود كله، والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف: ( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلـح عليه أمر الدنيا والآخرة ) وقال عبد الله بن مسعود: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه، فهو سبحانه نور السموات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره، ومن أسمائه الحسنى الجميل، وفي الصحيح عنه إن الله جميل يحب الجمال" [9] .

ثم يستطرد في بيان مراتب جمال الله تعالى بقوله: "وجماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، [ ص: 128 ] فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، وأما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها، إلا من أكرمه من عباده، فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال رسوله فيما يحكى عنه: ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ) [10] ، ولـما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء، فإنه سبحانه الكبير المتعال، فهو سبحانه العلي العظيم.

قال ابن عباس: "حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال، ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال، إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال، استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات" [11] .

بقيت الإشارة، إلى أن ابن القيم، رحمه الله، تعامل بـموضوعية أكثر مع موضوع الجمال، وكانت نظرته أكثر توازنا من الغزالي، رحمه الله، ودعا [ ص: 129 ] إلى التعامل مع الظاهرة الجمالية دون إفراط أو تفريط، لذلك نجده يـميز بين طائفتين كل منهما على الطرف النقيـض من الأخرى، قالت الأولى: "ما خلقه فلا نبغض منه شيئا، ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة، وأنشد منشدهم:


وإذا رأيت الكائنات بعينهم فجميع ما يحوي الوجود مليح



واحتجوا بقوله تعالى: ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) (السجدة:7)، وقوله: ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) (النمل:88)، وقوله: ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) (الملك:3)، والعارف عندهم هو الذي يصرح بإطلاق الجمال، ولا يرى في الوجود قبيحا، وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم والبغض في الله والمعاداة فيه وإنكار المنكر والجهاد في سبيله وإقامة حدوده، ويرى جمال الصور من الذكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله فيتعبدون بفسقهم، وربما غلا بعضهم حتى يزعم أن معبـوده يظهر في تلك الصورة ويحل فيها وإن كان اتحاديا قال هي مظهر من مظاهر الحق ويسميها المظاهر الجمالية" [12] .

أما الطائفة الثانية فقد قالت: "لقد ذم الله سبحانه جمال الصور وتـمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ) (المنافقون:4)، وقال: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم [ ص: 130 ] أحسن أثاثا ورئيا ) (مريم:74)، أي أموالا ومناظر، قال الحسن: "هو الصور"، وفي صحيح مسلم عنه: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) وقالوا: قد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة وذلك من أعظم جمال الدنيا، وقال: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ) (طه:131)، وفي الحـديث: ( البذاذة [13] من الإيمان ) [14] وقـد ذم الله المسـرفـين؛ والسـرف كمـا يكون في الطعـام والشـراب يكون في اللباس" [15] . [ ص: 131 ]

بعـد هـذا العرض المحـايد، ينـبري ابن قيـم للحسـم قائلا: "وفصل النـزاع؛ أن يقال الجمال في الصـورة واللباس والهيأة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه مالا يتعـلق به مدح ولا ذم، فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له، كما كان النبي يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه. والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك، وأما مالا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين" [16] .

قاعدتان مهمتان، لخص بهما ابن القيم، رحمه الله، نظريته في الجمال، وبالضمن فهي تعكس رؤية أغلب علماء الإسلام للظاهرة الجمالية: القاعدة الأولى معرفية، تتلخص في أن معرفة الله تكون ميسورة وقليلة الأعباء على من سلك طريق الذوق الجمالي، بما هو عشق دائم للجثو على الركب في محاريب العبادة والتبتل، والقاعدة الثانية سلوكية، مضمونها أن عبادة الله يجب أن تكتسي لبوسا جماليا شفافا، في العقيدة والشريعة والسلوك، وعلى المؤمن ساعتها أن يكتشف تجليات الجمال العقدية والتشريعية والسلوكية، [ ص: 132 ] ليستمتع بتطبيقها، وهو يعبد الله و"يعرفه بالجمال الذي هو وصفه ويعبده [17] بالجمال الذي هو شرعه ودينه" [18] .

وصفوة القول: إن علماء الإسلام على اختلاف العصور، تعاملوا مع الموضوعات الجمالية، تعاملا وظيفيا، واعتبروها جسرا للقرب من الله وعبادته، ومن أهم الأفكار التي تلخص هذا التوجه ما قاله "داوود الأنطاكي" [19] حول طبيعة الجمال، حيث رأى أن "الحسن هو ما استنطق اللسان بالتسبيح" [20] ، وهي مقولة معرفية بليغة تعتبر: "تجسيدا رائعا لحياتية الجمال وتركيبته وارتباطه بالعبادة، فنحن نسبح الخالق ونحمده عندما نرى الشيء الجميل ونقول: "الله"، كعلامة على انبهارنا بالجمال، هذا الجمال الذي يدعو إلى العبادة هو الجمال الحق" [21] ، وعليه يمكن القول إن: "كل [ ص: 133 ] صنعة مرئية أنطقتنا بالتسبيح هي فن جمالي: الحديقة الغناء المنسقة التي تدعونا للسير في أرجائها والتمتع بأريجها فن، الكرسي المصنوع من الخشب بحرفة الأرابيسك المتقنة حيث تتراكب الوحدات المتقنة الصنع في توليفة متكررة تحاكي التسبيح وتدفع للتسبيح فن، ومشكاة النحاس والخزف المتقنة الجميلة فن، واللوحة الجميلة فن، والعمارة والبيت فن، كل ما نراه حولنا فن، طالـما دعانا للتأمل وأحسسنا بقيمته الحياتية ودعانا للتفكر في تركيبيته، وكيف استخرج الصانع من المادة الغفل جوهرها، وبالتالي أبدع لنا جمالها في طريقنا نحو معرفة جلال الله سبحانه" [22] .

[ ص: 134 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية