الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      بين التربية والقانون

      الدكتور / علي القريشي

      3- تهيئة الإطار الاجتماعي المناسب لتطبيق القواعد القانونية:

      أجمع علماء الجريمة والعقاب المحدثين على خطورة دور المجتمع في صنع المجرم باعتبار أن الظروف الاجتماعية العامة من شأنها إمداد السلوك بالمثيرات والمنبهات، التي قد تدفع المرء نحو سبل الانحراف.

      إن النظم الاجتماعية بما تحتوي عليه من أعراف وتقاليد واتجاهات تمثل أحد أهم العوامل، التي تحدد وجهات السلوك، فقد تشجع على السلوك القويم وفعل الخيرات، وقد تشجع على السلوك الفاسد أو المنحرف.

      إن المجتمع الذي تتحكم فيه النوازع المادية والأنانية ستطغى فيه ظواهر الغش والسرقة والرشوة والتزوير والتفكك والصراع والمظالم، التي قد تطال حتى المقربين من زوجات وأزواج وآباء وأبناء.

      والمجتمـع، الذي تتحـرك فيه وسـائل الإعلام من دون ضوابط أخـلاقية أو اعتبارات أمنية قد يشجـع على العـديد من الممـارسـات المرتبطة بالجريـمة أو العنف أو الانحرافات الجنسية أو غيرها.

      كما أن انتماء الفرد لثقافة فرعية منحرفة "Deviate Culture" قد يصعب عليه التكيف السوي مع المعايير الثقافية العامة للمجتمع. وقد أثبتت الدراسات أن للاستواء والانحراف علاقة وثيقة بنمط الثقافة وطبيعة الجماعة، التي يعيش فيها الفرد. وفي هذا تأكيد أن المجتمع كوسيط مرب له الدور الفعال في تكوين الاتجاهات السلوكية، الأمر الذي من شأنه إضعاف دور القانون في تربية الفرد أو تحصينه. فمشكلات الإدمان والاغتصاب وتجاوزات المرور [ ص: 81 ] والسرقة وغيرها لـما تزل شائعة في كثير من المجتمعات اليوم، على الرغم من القوانين النافذة، التي تجرم هذه الممارسات.

      من هنا تبرز الحـاجة إلى وجـود الإطـار الاجتمـاعي الصالح، الذي يتناغم مع القانون ويعضد أحكامه بما يمكنه من أداء وظائفه ومهامه على النحو المطلوب.

      إذن، من الشروط الأساسية لازدهار القانون وقيام دولته معالجة المشكلة الاجتماعية، سواء من الجهة المعيشية بتوفير فرص العمل وتحقيق التنمية وعدالة التوزيع وتقديم الخدمات، أو من الجهة السلوكية المتمثلة بالحفاظ على القيم الأخلاقية والاتجاهات السلوكية السوية.

      ومن هنا يعنى المشروع الإسلامي بتأسيس الإطار الاجتماعي، الذي تتوافر فيه مقومات العيش الطيب وشروط الحياة التربوية والثقافية السليمة. وهذه مهام تتحملها الدولة وقيادتها الحاكمة في المقام الأول، وفي القول المأثور: "إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعهم وستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم فإن أعطيناهم هذه النعمة تقاضيناهم شاكرين" [1] .

      وهو ما يفيد بأن الأحكام الجزائية، وبخاصة الحدود مشروط إيقاعها بوجود منظومة اجتماعية تساعد بطبيعتها على خنق مبررات الجريمة ودواعي الشر والفساد واجتثاث أسباب ذلك كله، وبما يوفر ظروفا اجتماعية سليمة. [ ص: 82 ]

      لذلك، ففي ظل بعض الظروف الاستثنائية أو الحالات القاهرة يمكن الأخذ بمبدأ العفو، أو تخفيف العقوبة، أو حتى وقف التنفيذ عمن كان مضطرا أو معذورا في بعض ما هو محذور، كما في حالة إيقاف حد السرقة في عام الرمادة، الذي شهده العصر الراشدي، وكما في حالة تجميد بعض العقوبات في ظل المرحلة الانتقالية لبعض التجارب الإسلامية.

      وبناء على ما تقدم نقول: إن المنهجية الإسلامية في بناء العلاقة بين التربية والقانون تعتمد على توفير الشروط الاجتماعية المناسبة لتطبيق القانون، مما يعني أن التفاعل التربوي مع القواعد القانونية يظل مرهونا إلى حد ما بتلك الشروط.

      والحقيقة أن فهم فلسفة المنظومة القانونية الإسلامية وفهم طبيعة عملها وشروطها التطبيقية وما تتطلبه من توفير الأطر التربوية والاجتماعية المناسبة يظهر لنا عبثية الجهود، التي يبذلها بعض المسلمين اليوم لجعل بعض الأحكام الإسلامية موضع التطبيق لاسيما أحكام الحدود، التي ليس من المنطقي إسقاطها في ظل مجتمع لم تتوفر فيه الشروط المذكورة.

      فالانطلاق من القانون وتطبيقه من دون البدء بتهيئة الظروف والشروط المناسبة لا يوفر فرص النجاح المطلوب.

      إن تجريد الأحكام العملية من أبعادها الاعتقادية أو الاجتماعية أو من حيثياتها ومقاصدها لا يمنح التجربة الفاعلية والنجاح المرجوين ما دامت الأحكام غير متمازجة مع عقل المسلم ووجدانه [2] . [ ص: 83 ]

      إذن فمن مهمات التنشئة الإسلامية في ظل النظام الإسلامي أن تهيئ الـذهنية العامـة لتقبل ما تضعه السـلطـة من قوانين وما تصدره من تعليمات أو أوامر، والمجتمع المؤمن يتقبل ذلك طالما كانت تلك القوانين - حتى ما يصدر منها عن اجتهاد- تعبر عن الشرعية والمشروعية. ولعل هذا اللون من التوافق في ما بين المواطن والقانون قد لا نجده في المجتمع، الذي تسوده القوانين الوضعية وذلك لغياب الرابطـة العقيدية بين المـواطن والقـانون، وقد يزداد التناشز حين لا يعبر القانون إلا عن أهواء الحاكم، الأمر الذي يتولد عنه عدم الاكتراث بالقانون الوضعي- كما يقول فيليب هـ. فينكس [3] .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية