الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - ثانيا: التعاضدية:

      تتميز التربية الإسلامية بأنها تعضد القانون الإسلامي في بعض وظائفه، وتسهم في تحقيق بعض أهدافه. كما أن القانون الإسلامي يعضد التربية الإسلامية في بعض وظائفها، ويسهم في تحقيق بعض أهدافها، وقد أشار الفخر الرازي إلى هذه الظاهرة بقوله: "إن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطا بعضها ببعض ليكون كل واحد منها مقويا للآخر ومؤكدا" [1] . وهذا منهج يكسب القرآن الكريم طابعا توجيهيا وإرشاديا يتبع في العادة أساليب الترغيب والترهيب وغيرها من الأساليب التربوية، التي من شأنها مساعدة المتلقي على تقبل ما تتضمنه النصوص من مقررات أو أحكام. [ ص: 36 ]

      ومما يساعد على توافر هذا التعاضد أن ثمة أهداف عامة يشترك في العمل من أجلها كل من التربية والقانون، وفي مقدمتها:

      - رضا الله تعالى.

      - تحقيق الالتزام بالواجبات الشرعية.

      - صيانة الحقوق والحريات العامة.

      - الحيلولة دون الانحرافات السلوكية.

      - تحقيق الضبط الاجتماعي.

      - التنشئة والتكيف بما يتوافق مع الثقافة الأساسية للمجتمع المسلم.

      من هنا، فالتربية في إطار النظام الإسلامي تعمل على تنشئة الفرد وتكوينه بما يجعل من الأفراد والجماعات أكثر التزاما بالقوانين والتعليمات، خاصة أن التربية والقانون يحملان من المضمون الديني ما يجعل الالتزام بهما عملا من أعمال العبادة.

      إذن يمكن القول: إن المضمون الديني ووحدة المنطلق والأهداف، التي تجمع بين التربية والقانون الإسلاميين، هي مما يؤسس لحالة التعاضد فيما بين الاثنين، وهو مالا يتوافر مثله في ظل النظم الأخرى. فالكثير من التربويات المادية والقوانين الوضعية في ظل النظام الواحد قلما يجمعهما الرابط العقيدي أو الفكري أو حتى الأهداف على النحو المتشابك، الذي نلمسه في الإسلام، الأمر الذي يفقدهما التعاضد المطلوب. [ ص: 37 ]

      وقد ندرك هذه الحقيقة أكثر إذا عرفنا أن أكثر القوانين الوضعية والتربويات غير الإسلامية تفتقر إلى التعاضد بحكم أن العديد من جوانب الحياة الإنسانية تهمل في ظل تلك القوانين من دون تنظيم أو توجيه. فالقوانين في ظل النظم غير الدينية لا تضع في العادة أية جزاءات على التعري أو الزنا، الذي يتم عن رضا، أو عن شرب الخمر أو لعب الميسر، ولا حتى على الإجهاض عند بعـض منها، لاسيمـا أن الكثير من تلك النظـم يتغـاضى عن مقتضيـات العفة أو الحياء العام، لا مبالاة أو طمعا في الرواج السياحي. كما يباح التعامل بالربا من أجل الرواج الاقتصادي، وكذلك الحال بالنسبة للتربية العلمانية (غير الدينية)، حين لا تتخذ مواقف محددة من هذه السلوكيات وما شابهها.

      وفي ظل النظم التسلطية، التي تركز على قيم الطاعة والانصياع للسلطة، تهمـل العديد من السـلوكيات الفردية والاجتمـاعية الخـاصة من دون تنظيم أو ضبط طالما لا تقترب تلك السلوكيات من السلطة ولا تمس أمنها أو هيبتها من قريب أو بعيد.

      وإذا كان الكثير من أوجه الانضباط السلوكي، التي نراها في مستعمرات النمل والنحل تتم بنحو فطري، حيث لا يحتاج الحيوان إلى تربية اجتماعية، فإن الأمر في حالة الإنسان غير ذلك، إذ يظل هذا الكائن بحاجة إلى الإخضاع القانوني والإدارة الرشيدة للكثير من شؤون حياته. علما بأن القانون وحده غير قادر على الضبط السلوكي التام، وأقصى ما يستطيعه أن يأمر الناس بالتزام أحكامه من الناحية الشكلية، الأمر الذي تبرز معه الحاجة إلى التربية، التي من شأنها توفير احترام القانون والالتزام به. [ ص: 38 ]

      غير أن التربويات (العلمانية) والسلطوية وهي تفتقر عادة إلى المضمون الديني الحقيقي تظل عاجزة عن التأثير الكافي، وليس بوسعها التغلغل في النفوس، حتى إن الكثير من أنشطتها الموجهة إلى تعزيز القانون والساعية إلى فرض قواعده وهيبته تفقد جدواها. وهذه حقيقة أدركتها بعض الدول الحديثة [2] .

      وإذا كانت التربية في ظل النظام الإسلامي تفعل فعلها الواضح في تعضيد القانون، فإن القانون بدوره يفعل فعله في تعضيد التربية، وفي دعم وظائفها وأهدافها وربما إكسابها الفاعلية، ذلك لأن الخطاب التشريعي الديني وهو يتجه لمختلف جوانب الحياة الفردية والاجتماعية ينطبع بالضرورة على التكوين النفسي والسلوكي، ويشكل أحد عناصر التنشئة الاجتماعية لمن يؤمن بالشريعة وأحكامها، التي تأخـذ عنـوان: "الواجـب" أو "الحـرام" أو "المـكروه" أو "المستـحـب"، مما يعني أن القانون بشرعيته يشكل مصدرا من مصادر توجيه السلوك.

      وهـذا مالا نعـرف مثلـه في ظـل النـظم غير الدينيـة (العلمـانية)، التي لا تكتسـب في ظلـها القـاعدة القـانونية الاحترام الـكافي إلا بحكم آلية العادة أو بسبب خوف الجزاء أو نتيجة الاقتناع بمجرد معطياتها النفعية. إضافة إلى ذلك محـدودية القـانـون الوضـعي، الذي يترك العـديد من المفردات السـلوكية بعيدة عن التـقنـين والتوجـيـه، وذلك تبـعا لمبـدأ أن القـانون يـنـبـغي أن لا يتناول من العلاقات إلا ما هو ظاهر منها، ولا شأن له بمفردات العلاقات الخاصة، [ ص: 39 ] التي تربط الإنسان بربه أو نفسه أو بغيره طالما لا يترتب على هذا النوع من العلاقات مخالفات مباشرة تمس المجتمع [3] ، وهو لاشك منظور ضيق يغفل حقيقة أن من علاقات الإنسان وسلوكياته ما له الآثار السلبية المباشرة أو غير المباشرة على النفس والمجتمع، ومع ذلك لا يراها القانون المذكور جديرة بالتدخل.

      والنظم الوضعية، سواء تلك التي تصدر قوانينها انطلاقا من النظرية الفـردية أو التي تصـدر قوانينها بناء على النظرية الاجتـماعية [4] لا تأمر بكل ما تنادي به الأخلاق، ولا تنهى عن كل ما تنهى عنه، فردية كانت الأخلاق أو اجتمـاعية. كما أن تلك النظـم لا تضـع قـوانينـها على أسـاس من القيـم أو الأحكام الدينية إلا بالقدر، الذي يفرضه مفهوم "المصالح العـامـة" أو في ضـوء ما يقتضيـه مبـدأ "الآداب العامة"، بمعناه الوضعي، أو بما يحكم به "القانون الطبيعي"، بدلالتـه عنـد رجـال المؤسـسـة القـضـائية الحـديثـة، وهذا ما يجعل الكثير من القواعد الأخلاقية والدينية وحتى الاجتماعية عناصر هامشية ليس لها ذلك التأثير البالغ.

      فالزنا مثـلا، لا يتم التعامل معه بوصفه جريمة منكرة إلا إذا حـدث عن إكراه أو اغتصاب، وشـرب الخمـر لا يجرم إذا ما تم تحـت سقـف منـزل أو بار وليس فيه إيذاء أو إزعاج واضح للآخرين. [ ص: 40 ]

      وإذا كان ثمة نصيب من الحقيقة يلوح في فكرة أن الحرية تمثل شرطا في الأخلاق، فإن اعتماد القانون على هذه الفكرة يكشف عن نزعة فردية لها من السلبيات ما يؤكد أهمية ما تضعه بعض النظم من قيود من شأنها زيادة يقظة الإنسان إزاء الجوانب السلوكية الماسة بالمجتمع [5] . ولعل التداعيات المدمرة الناتجة عن ابتعاد التربية أو القانون عن التدخل في ضبط بعض جوانب السلوك البشري فيها ما يؤكد الحاجة إلى مثل تلكم القيود، مع أننا لا نعمل-عند أخذنا بهذا الرأي-على إعطاء غطاء للتوسع التدخلي على نحو ما يجري في ظل النظم التسلطية وهي تستخدم القهر التربوي أو القانوني لكبت الكثير من حريات الناس أو مصادرة حقوقهم أو تطويعهم للأغراض السياسية أو النفعية.

      نحن نؤمن بأنه لا يمكن بروز أية قيمة إيجابية لظاهرة التعاضد بين التربية والقانون مالم يكن الخطاب التربوي يلامس روح الإنسان ويحرك وجدانه، ومالم يكن القانون معبرا عن إيمان الجماعة وحاديا لمصالحها الحقيقية، فضلا عن تجسيده لقيم الحق والعدل والمساواة وما يقتضيه أمن المجتمع، ناهيك عن أن التربية، التي تنشئ على الخوف وتعلم الخنوع والاستسلام [6] للقوانين المتمحورة حول أمن السلطة وأغراضها الخاصة لا تثمر غير الاستكانة والفساد. [ ص: 41 ]

      وفي ضوء ما تقدم نقول: إن العلاقة التعاضدية بين التربية والقانون، في الإطار الإسلامي، هي الأوسع شمولا والأبعد عمقا والأشد فاعلية وتأثيرا، خاصة حين تتشكل في مجتمع تؤمن غالبيته بهذه المعادلة وتعتقد بشرعية مصادرها التربوية والتشريعية.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية