الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ثالثا: في الحقل السياسي:

      أ- الأحكام السياسية:

      يعد الدستور هو القانون الأساس في تنظيم الحياة السياسية، إضافة إلى قوانين أخرى كقانون الانتخاب وقانون الأحزاب وغيرها من القوانين المتصلة بالشأن السياسي والتي يمكن في ضوئها التحدث عن النظام السياسي الإسلامي.

      ويمكننا معرفة الأحكام السياسية من خلال عرض المباحث الآتية:

      1- أركان الدولة الإسلامية:

      تتكون الدولة الإسلامية - كما في علم النظم السياسية - من أركان ثلاثة هي: [ ص: 113 ]

      - السلطة: وتتمثل بالجماعة الشرعية المنتخبة وفقا للقانون الإسلامي والتي تجب لها الطاعة في مقابل التزامها بالدستور والشريعة والمبادئ العامة وقواعد الممارسة السياسية الإسلامية.

      - السكان: وهـم الشـعب، الذي يشـكل المسـلمون فيه الغالبية، مع حمـاية حـقـوق المـواطنـين من غـير المسـلمين، فضـلا عـن حقـوق المقيمـين أو المستأمنين من الأجانب والزوار.

      ويتسـاوى سـكان الإقليـم الإسـلامي بمجمـل الحقوق والواجبـات، فيما لا يترتب لأبناء الأمة خارج إقليم الدولة إلا الحقوق الإنسانية والاعتبارية، التي يفرضها الانتماء الإسلامي الواحد.

      - الإقليم: من الناحية المبدئية تعد الأرض أو دار الإسلام هي الإقليم، الذي تحكمه الآيديولوجية الإسلامية، وتطبق فوقه أحكام الشريعة، ويخضع إلى قيادة إسلامية شرعية.. أما الأرض التي تقع خارج حدود دار الإسلام فلا تعد من الإقليم الإسلامي إذا لم تكن خاضعة سياسيا وقانونيا إلى الدولة الإسلامية، حتى إن كانت غالبية سكانها من المسلمين، وبذلك لا تسري عليها أحكام وقوانين الدولة الإسلامية.

      2- المبادئ السياسية العامة للدولة الإسلامية:

      بمـوجب الدستـور الإسـلامي وأحـكام الشـريعة والقـوانيـن المنبثقـة عنها أو المعتمدة سلطانيا يمكن للمبادئ الآتية أن تشكل إطارا عاما للنظام السياسي الإسلامي: [ ص: 114 ]

      - العدل: أي تحـكيم العـدل الاجتمـاعي والسيـاسي والاقتصادي مع القريب والبعيـد، والمؤيد والمعارض، القـوي والضعيف، العام والخاص ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58).

      - الشورى: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى:38). وتعد الشـورى ملزمـة للحاكـم في نظر قسم كبير من علماء المسلمين اليوم ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران :159).

      - الحرية: نعني بالحرية حق المواطن في التفكير والتعبير، وكذلك حق المشاركة العامة والنقد والتقويم على الصعيد العام، فضلا عن حرية الاجتهاد وممارسة الاختيار السياسي بما لا يتجاوز الثوابت والنظام العام والقوانين المرعية.

      - المساواة: ويعنى بها عدم التفرقة بين مواطني الدولة الإسلامية، واعتبارهم شيئا واحدا أمام القانون، وفي هذا يتساوى المسلمون مع غيرهم من المواطنين. كما يتساوى الحاكم مع المحكوم دون استثناء أو تمييز.

      - حق المساءلة: ويعنى به حق المواطنين في مساءلة الحاكم ومجمل القيادات العامة في ضوء ما يتحمله المسؤول أو القائد من واجبات مقررة وفقا للدستور والقوانين المرعية.

      - حماية الحقوق والحريات العامة: إن حماية الحقوق والحريات العامة التزام يتوجب على المسلمين تحمله، إلا أن ولاة الأمر يتحملون مسـؤولية تأمين حقوق الناس وحرياتهم أكثر من غيرهم بحـكم مسـؤولياتهم الاستثنائية وما يملكونه من صلاحيات وسلطات عامة. [ ص: 115 ]

      3- السلطة وشروط إسنادها:

      الحاكم أو القائد في الدولة الإسلامية هو ذلك الشخص، الذي لابد أن تتوافر فيه جملة من الشروط حينما يحتل موقع السلطة العليا. وهذه الشروط هي:

      - العلم: المقصود بالعلم هنا: العلم بأحكام الإسلام وحيازة مرتبة الاجتهـاد في ذلك. كما يمـكن- في رأي آخر- عـدم اشـتراط هذه المرتبة، بل يـكفي العلـم الإجمـالي بالإسـلام، شريطة أن يعود في الحالات، التي يحتاج فيها إلى استنباط فقهي إلى ذوي الاختصاص من العلماء [1] .

      - التقوى: يطلق بعض الفقهاء على هذا الشرط مصطلح "العدالة"، وهو شرط يتصل بالجانب السلوكي والاستقامة الشخصية والالتزام الديني المطلوب في شخصية المرشح للقيادة.

      - الكفاءة والخبرة: المتصلة بإدارة الشؤون العامة وتسيير أمور الدولة والمجتمع، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

      * أما طريقة إسناد السلطة فلها آلية قانونية يمكن أن تتمثل بعدة آليات مناسـبة، إما بالانتخاب العام المباشر، أو بالتصويت من قبل ممثلي الشعب، مع شـرط حصـول البيـعة العامة عن طريق الاسـتفتاء الشعبي وفقا للآليات، التي يحددها الدستور أو القوانين الانتخابية المعتمدة. [ ص: 116 ]

      4- وظائف الدولة الإسلامية وأهدافها العامة:

      يمكن النظر إلى وظائف الدولة الإسلامية من زاويتين:

      الأولى: الأهداف العامة: وتتمثل بما يأتي:

      - حماية العقيدة والقيم، عبر المهام التربوية والثقافية والاتصالية.

      - هداية البشرية وإنقاذها.

      - تطبيق أحكام الشريعة تقنينا وتنفيذا وقضاء وتطويرا.

      - رعاية المصالح العامة المحددة في ضوء المقاصد الشرعية.

      - إقامة العدل ونشره بين الناس: ( وأمرت لأعدل بينكم ) (الشورى:15)، سواء كان العدل عدلا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا.

      الثانية: الاختصاص القانوني للسلطات العامة:

      ويشمل وظائف السلطة التشريعية في إعداد القوانين والمصادقة على شرعية إعدادها أو إجازتها، كقوانين التعليم والمرور والصحة العامة والبيئة والبناء والمهن المختلفة وتنظيم الإدارات والمصالح العامة وتحديد اختصاصات وسلطات كل منها، وغيرها من القوانين، التي تحتاجها الدولة الحديثة.

      كذلك وظائف السلطة التنفيذية، التي تضطلع بتنفيذ أحكام القانون وإدارة المؤسسات العامة وانتظامها بما يوفر الحاجات العامة وتحقيق المصالح العليا، ناهيك عن اختصاصاتها بإصدار اللوائح والتعليمات، التي تستهدف انتظام أمور الدولة وقطاعاتها المختلفة. [ ص: 117 ]

      ثم وظائف السلطة القضائية، التي تنظر في الخصومات والمنازعات، التي تحدث بين الناس بعضهم بعضا أو بينهم وبين الدولة وفقا لأحكام الشريعة والقوانين المعتمدة.

      5- الحقوق والحريات والواجبات في النظام الإسلامي:

      هذه الحقوق، تشمل حرمة الذات وحق الأمن وحرمة المسكن والخصوصيات وحرية التنقل وحرية العقيدة الدينية وحق أداء شعائرها وحق التعليم والحريات الفكرية والحقوق والحريات الاقتصادية والمعيشية كحق الملكية وحق التجارة وحق العمل وحقوق العمال وحقوق الأفراد في كفالة الدولة لهم، وحرية التجمع والعمل السياسي المشروع، إضافة إلى واجب الطاعة والنصرة وحق المساءلة والمعارضة المشروعة.

      وحيث إن هذه الحقوق والحريات ينص عليها الدستور، فهي حقوق مصانة ويمكن تنظيمها بقوانين خاصة.

      ب- التربية السياسية:

      إن معظم الدراسات، التي أجريت في مجال التربية السياسية تبنت مفهوم النظام السياسي كإطار لها [2] إذ إنه ما من نظام سياسي إلا وسعى إلى تنوير المجتمع وتطبيعه وفقا للثقافة السياسية، التي تتبناها السلطة أو يسير عليها [ ص: 118 ] النظام السياسي القائم. لذا فهذا النوع من التربية معني بتطبيع النشء والشباب وتنوير طوائف المجتمع كافة بالمبادئ العامة والثقافة السياسية والاتجاهات الأساسية، التي يتبناها النظام الشرعي القائم. أضف إلى ذلك شمولها تدريب الصفوة السياسية، والسعي إلى تحقيق المشاركة بين المواطن والدولة من أجل البناء الاجتماعي وتسهيل عملياته وتحقيق أهدافه.

      والتـربية السياسية الإسـلامية على الرغم من استـيـعابـهـا للمعنى المذكور إلا أنها حتى في إطار النظام الإسلامي لا تتوقف عند دعم هذا النظام ومساندته بل تمارس مراقبته ونقده وتقويمه.

      ولمعرفة العلاقة بين التربية والقانون في الإطار السياسي الإسلامي نعرض إلى ما يأتي:

      1- مقومات تربية الوعي بالهوية وتكوين الانتماء:

      لبناء الوعي بالهوية وتكوين الانتماء أهمية كبيرة في تحقيق الانسجام بين المواطن والدولة، والالتزام بالنظام والأحكام القانونية العامة.

      ومن شروط تربية الوعي بالهوية والانتماء ما يأتي:

      - تحقيق الوعي بمفردات الهوية الإسـلامية كاللغة والزي والعادات والتقاليد والأعراف السـليمة، ومجمل ما تختزنه الحضارة الإسلامية من قيم ورموز وأعياد وذكريات.

      - الإيمان بفكرة الدولة الإسلامية والانتماء إليها، ففي ظل التربية الإسلامية تصبح فكرة الدولة الإسلامية - كما يقول د. حامد ربيع- حقيقة [ ص: 119 ] يمتلئ بها العقل والوجدان [3] ؛ مع ضرورة التوعية بحدود الثوابت والمتغيرات السياسية.

      - تربية الانتماء الجغرافي للوطن الإسلامي، أرضا ومجتمعا وكيانا، وذلك في سياق ما يطلق عليه حديثا بالتربية الوطنية، أي تعميق روح الانتماء السياسي والاجتماعي للوطن الجغرافي، مع استبطان المنظور الشرعي للأرض، الذي يعتمد أساسا على الأيديولوجيا والشريعة وطبيعة النظام الإسلامي من دون إغفال القيمة الجغرافية بوصفها حالة واقعية وموضوعية لها مقتضياتها القانونية الخاصة.

      - تربية الوعي بالهوية الاجتماعية، وذلك من خلال التركيز على الوحدة العقائدية العامة، والشعور الجمعي، والتساوي الاجتماعي، بعيدا عن مشاعر واتجـاهـات التـعصـب العـرقي أو المناطـقـي أو المـذهـبي الضـيق، الـذي كـثـيرا ما يتمخض عن سلوكيات التشرذم والافتـراق، فالإسلام إذ يربى على حرية التعـدد يقيدهـا بالإطار الوحدوي الجامـع ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (آل عمران :103).

      كما تمثل القيم الجماعية كقيمة الأخوة، والمساواة، والتكافل الاجتماعي، والتعاون، والتضامن، والنصرة، والشعور بالتحدي المشترك، مفردات أساسية في التربية الاجتماعية الانتمائية. [ ص: 120 ]

      - تربية الولاء السياسي للقائمين على أمر الدولة الإسلامية، وهو يقوم على اعتبارين: الأول: ضرورة الارتباط بقيادة، والثاني: ضرورة أن تتوافر في القيادة الصفة الشرعية. وبهذا ينتفي الولاء لغير القيادات الشرعية، فضلا عن الولاء للكيانات الأجنبية.

      وبنـاء عـلى ذلك لابد أن يمتنـع المسـلم عن إعـطـاء ولائـه لقيـادات غـير شـرعية أو كيانـات خـارجية، ويتجنب بذلك حالات الوقوع في الخيانة أو المخالفات الشرعية أو القانونية الأخرى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) (الممتحنة:1).

      كما أن الوعي بالقيادة الشرعية وتشخيصها من شأنه أن يقوي الالتزام بالموقف الولائي الصحيح، الذي يبعد المرء عن انزلاقات البغي أو التمرد. وهذا يعني رفض حصر الولاء بالدوائر الضيقة، طائفية كانت أو مناطقية أو فئوية.

      2- التربية على المشاركة السياسية:

      تتمثل المشاركة السياسية بما يبذل من جهد فكري أو عملي يصب في خدمة الدولة ومؤسساتها للنهوض بمهامها، التي تعمل على تحقيق الأهداف العامة للمجتمع.

      وهذه المشاركة تأخذ أشكالا متعددة، كالتعاون على تطبيق القوانين واحترام النظام، والمشاركة في حفظ الأمن العام، ومحاربة البغي والجريمة والفساد، وأداء الخدمة العسكرية، والإسهام في مقتضيات الأمن المعيشي والحفاظ على [ ص: 121 ] المال العام، والحرص على إقامة التوازن الاجتماعي، والمشاركة في الانتخابات، وممارسة الدعوة والاتصال الخارجي، وغير ذلك مما تقتضيه المصالح العامة.

      إن كل ذلك ينطلق مما يأتي:

      - تربية الإحساس بالمسؤولية العامة عبر ترسيخ قيمة المسؤولية ( كلكم راع ومسئول عن رعيته ) [4] .

      - ترسيـخ فـكرة الواجـب قبـل الحـق، وذلك انطـلاقا من مفهـوم الثواب الأخروي: ( إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ) (سبأ:47).

      إن الممارسة السياسية، التي تتحرك من هذه المنطلقات لا تعاني الغربة السياسية "Alienation" أو العدمية السياسية أو اللامبالاة أو نحو ذلك مما هـو متـوقع من سيـكـولـوجـيات الأفـراد في ظـل النظـم السياسية غير الشرعية [5] .

      3- التربية القيادية وتربية الاختيار القيادي:

      - التربية القيادية:

      تبرز أهمية التثقيف بالموضوع القيادي من ناحية المرشح للقيادة بضرورة أن يتجلى بالمواصفات والشروط المطلوبة في القائد، وأن يظل ملتزما بقواعد الممارسة القيادية المقررة إسلاميا ليواصل تؤهله لهذا الموقع. [ ص: 122 ]

      إن القائد حين يتربى على مبادئ وأحكام الشريعة، وفكرة الوكالة عن الجماعة، ورعاية الأمانة، ودقة في اختيار الأعوان، والنزاهة والزهد في السلطة، فإنه سيترجم الأنموذج الإسلامي في القيادة.

      ففكرة أحكام الشريعة تعني أن الحاكم لابد أن يتقيد بالثوابت الشرعية والقـانونية. وأن أية ممـارسـة سيـاسـية حـتى إن تحـركت في إطـار الاجتـهاد أو الاختيار بين البدائل أو ضمن دائرة فن الممكن، ينبغي أن لا تتجاوز الثوابت، فالأصل أن لا يطاع الله من حيث يعصى، وأن الغاية لا تبرر الوسيلة.

      كما أن فكرة الوكالة عن الجماعة أو الأمة تعني أن القائد خيار الأمة، ولم تكن الأمة خياره، ولهذا لا معنى لمقولة القيادة (الكارزمية) ذلك أن القائد يبقى في النظرية الإسلامية مجرد موظف في خدمة الجماعة.

      ومن هنا لابد من التربية على الشورى والالتزام بالقواعد الإسلامية في التعامل السياسي والإداري وبضوابط إصدار القرارات والابتعاد عن الديماغوجية: ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى ) (الأنعام:50).

      كما أن من المواصفات المهمة المطلوبة في القائد استشعار عظم المسؤولية والزهد في السلطة: ( إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) [6] ، والقبول بممارسة النقد الذاتي: [ ص: 123 ] ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) (القيامة:2)، واحترام وحماية الحقوق والحريات العامة والالتزام بأخلاقيات التعامل مع الشعب من رحمة وتواضع وحزم وتواصل، فضلا عن ضرورة الوعي باختيار الأعوان وفقا للمعايير الصحيحة: ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص:26).

      ثم إن إعداد القيادة المربية في لغتها وخطابها وسلوكياتها وأسلوب عيشها وقدوتها وثباتها وتضحياتها لابد منه في التربية القيادية.

      ولاشك في أن مثل هذه المقومات من شأنها أن تبعد القائد عن الوقوع في الانحراف أو الاستئثار أو الظلم أو الفساد، وكل ما يعاقب عليه القانون الإسلامي المدني أو السياسي.

      - تربية الاختيار القيادي:

      بما أن القيادة لها طرفان: القائد والأتباع، فإن التربية القيادية كما تخص القائد تخص الأفراد العاديين، فالمسلم العادي المواطن (التابع) لابد له من تربية تتصل بإدراك مفهوم القيادة في الإسلام وشروطها ووظائفها. وهذا ينتج بالضرورة وعيا بالاختيار الحسن وتمييزا بين الصالح والطالح وابتعادا عن الشخصيات المفتعلة أو الدخيلة أو المنافقة، التي يمكنها التسلل عن طريق المال أو الإعلام إلى ساحة العرض السياسي.

      فحسـن الاخـتـيـار شـهادة ومسـؤولية: ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ... ) (البـقـرة:283)، وأمـانة خـطيـرة: [ ص: 124 ] ( إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) [7] .

      إذن من مقومات التربية الإسلامية التوعية بالشروط الشخصية المطلوبة في القائد، سواء قبل الإسناد أو بعده، وإدراك فكرة الوكالة عن الأمة، ومبادئ الممـارسـة القيادية، وأسلوب التعامل الصحيح سواء على صعيد إدارة السلطة أو التعامل مع الناس.

      والقرآن الكريم قد طرح، بدلالة تربوية، عقبى الاختيار السياسي السيء، يقول تعالى: ( وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) (البقرة:167).. ولاشك في أن تربية الاختيار لدى المواطن وممارسة دوره الصحيح على هذا الصعيد من شأنها مساعدة القائد نفسه على الالتزام بالأحكام والقوانين وأصول الممارسة المشروعة. وقد قيل: "كما تكونوا يولى عـليكم". وهنا تساعد التربية القانون، كما يقوي القانون التربية.

      4- التثقيف بالحقوق والحريات العامة:

      الحقوق والحريات العامة، التي عالجها الإسلام في مصادره وأحكامه الفقهية لم تطرح بمعزل عن الواجبات، وهي ليست مجرد مقررات دستورية وقانونية، بل تدخل في صميم ممارسات المسلم الدينية والاجتماعية، سواء بالنسبة للمحكوم أو الحاكم. [ ص: 125 ]

      إن حرمة الذات والسكن والخصوصيات والحقوق الاقتصادية والمعيشية وحرية العقيدة وصيانة حقوق الأقليات وحق المساءلة والمعارضة كلها مفردات في نظام الحياة الاجتماعية، وتعكس نمط المجتمع السياسي الإسلامي، ولابد من احترامها انطلاقا من مفهوم الواجب وما ينبغي أن يتحمله المواطن من مسؤولية عامة.

      5- التثقيف بمفهوم الواجبات العينية والواجبات الكفائية:

      من المطلوب تربويا التثقيف بالواجب العيني، والتوعية بأنه برغم طابعه الفردي ينطوي أحيانا على أبعاد اجتماعية أو سياسية كما في إقامة الصلاة في ميدان عام للتعبير عن الانتماء والهوية أو بهدف الحشد أو التعبئة في ظل بعض الظروف السياسية.

      أما الواجب الكفائي فهو بحكم طبيعته الاجتماعية أو السياسية ينطوي على أهمية كبيرة وفائقة في حياة المجتمع، حتى إنه قد يتحول إلى واجب عيني إذا لم يقم به أحد. وهذا يعني أنه على كل مسلم أن يسعى إلى إيجاد الوسائل، التي تحقق هذا اللون من الواجبات بوصفها فروضا مقررة على الجميع، وأن عدم أدائها سيحملهم الإثم جميعا.

      6- التربية على الطاعة السياسية:

      لبناء شخصية المواطن الإيجابي والمشارك لابد من التربية على الطاعة السياسية بالمعروف، التي تتصل بالحفاظ على النظام العام واحترام القوانين والاستجـابة لدعـوات المشاركة في الانتخابات، وتلبية نداء الواجب الجهادي أو التنموي أو نحو ذلك. [ ص: 126 ]

      ولاشك في أن الاستجابات القائمة على الطاعة ستمنح القوانين والأوامر والتعليمات العامة سهولة السريان والتطبيق، الأمر الذي سينعكس إيجابيا على توفير الحقوق والمطالب العامة على نحو أفضل.

      وبهذا تتعاضد التربية مع القانون.

      7- أخلاقيات المعارضة:

      الموقف المعارض في الإطار الإسلامي يمثل في بعض الحالات أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، أو حرصا على سلامة الحياة السياسية، أو قياما بواجب النصيحة: ( الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ) [8] ، فضلا عن كونها تعبيرا عن الاهتمام بالشؤون العامة.

      والمعارضة بمفهومها الإسلامي تحتاج تربويا إلى ما يأتي:

      - فقه الأحكام العامة للنظام السياسي الإسلامي.

      - تأكيد احترام النظام العام، الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي.

      - مراعاة الثوابت العقيدية والتشريعية على النحو الذي لا يتيح لأصحاب البدع والضلالات أن يهددوا وحدة الكيان وسلامته السياسية والاجتماعية.

      - فقه فكرة الشرعية السياسية وحدودها والحقوق، التي تترتب عليها.

      - التربية على الحرية وحق الاختلاف. [ ص: 127 ]

      - بث المشاعر العاطفية السلبية إزاء أي تجاوز أو فساد عام، والتنشئة على مقاطعة الظلمة، والسعي إلى إحداث التغيير في حالات الانحراف، بالطرق المناسبة والمشروعة.

      - التربية على المعارضة السلمية على أنها حق مشروع، إلا أنه من غير المقبول ممارسة هذا الحق عبر استخدام القوة أو العنف، الذي يمكن أن يتحول إلى بغي أو إفساد أو خروج على الشرعية.

      لذا فإن التربية على المعارضة البناءة تقتضي:

      - غـرس احترام صفـة العـلم والتخصص، بحيث لا يعارض المعارض إلا عن عـلم بالأحـكام ودراية بالواقع وإدراك بالسيـاسة الشرعية ومعرفة بالبيئة الدولية.

      - نبذ فكرة المعارضة من أجل المغالبة على السلطة. وهذا يتطلب نبذ نزعة حب السلطة وعدم السعي إلى إسقاطها دونما مبرر، مع تقدير أهل الاختصاص والكفاءة. فالأخطاء والهفوات لا تلغي الشرعية ولا تبرر أن يطرح المعارض نفسه بديلا عن السلطة المنتخبة، ولكن يمكن إبداء الرأي وممارسة التقويم واقتراح البدائل المناسبة.

      - التربية على الموضوعية عند الاختلاف: وهذا يقتضي تجنب الخلط بين الخطأ الاجتهادي والمنكر، مع أهمية أن يتمثل المعارض دور صاحب القرار عند المعارضة، وأن يوثق أي اتهام بالتقصير أو الفساد.

      وفي كل الأحوال لابد من التحلي بنكران الذات ومراعاة المصلحة العليا، والأخذ بمنطق الأولويات في كل معارضة أو دعوة للتغيير. [ ص: 128 ]

      - تعليم آدب الحوار، والتعويد على أخلاقيات الاختلاف بعيدا عن السب والقذف والكلام البذيء أو التشهير أو السخرية أو التنابز بالألقاب، والالتزام بالصدق والأمانة والنبل والإخلاص والوضوح وسلامة النية من دون فصل بين ممارسة السياسة والمقتضيات الأخلاقية.

      أما بالنسبة للتربية الحزبية وأصول التعامل مع السلطة الشرعية فلها ركائز أهمها:

      - إن الانتماء إلى حزب أو جمعية ليس مبررا لإلغاء واجب الولاء للشرعية السياسية واحترامها. فالممارسة الحزبية يجب النظر إليها في إطار المشاركة في أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالمراقبة وإبداء النصيحة، ومن ثم التسديد والتقويم، وليس الهدف منها بالضرورة تغيير السلطة أو الحلول محلها.

      - الالتزام بمبدأ الوحدة الإسلامية، والحفاظ على التماسك السياسي العام، وتجنب التعصب الفئوي والانغلاق الحزبي، والتأكيد على منهج الانفتاح تدعيما لمفهوم الجماعة الواسعة ومفهوم المجتمع الإسلامي الموحد.

      - تعاون جميع المنظمات والأحزاب وفقا لقاعدة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه".

      تعليق:

      نستخلص من كل ما تقدم أن التربية السياسية الإسلامية المتناغمة مع مدركات النظام السياسي الإسلامي ووظائفه وأهدافه من شأنها أن تؤسس للسلوك السياسي السوي، سواء على مستوى القيادة أو على مستوى القاعدة، وعلى النحو الذي يتم من خلاله احترام الشرعية السياسية والمحافظة على المشروعية. [ ص: 129 ]

      إن التثقيف بالنظرية السياسية الإسلامية بما تتضمنه من مبادئ عامة وشروط للاختيار والإسناد وقواعد للممارسة إنما يحدد الخطوط الواضحة للسلوك السياسي المطلوب، سواء بالنسبة للقيادات أو القواعد، وبما يساعد في النهاية على احترام الدستور والشرعية والقوانين والضوابط، ومن ثم الحفاظ على الكيان السياسي العام للدولة والمجتمع، وبما يحقق المنعة والتقدم.

      والحقيقة أن ارتباط فعاليات السلطة والأنشطة السياسية للأفراد والجماعات بالتربية السياسية الإسلامية من شأنه أن يوفر حالات التعاضد والتكامل بين التربية والقانون، الأمر الذي يساعد في النهاية على إنجاح التجربة السياسية وعملية البناء وتحقيق الأهداف العامة للمجتمع الإسلامي.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية