الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      1- مبدأ أسبقية التربية على القانون، والإعلام بالنص قبل إنفاذ العقاب:

      أوجب الله تعالى على نفسه أن يعلم الناس ويدلهم على السبيل المستقيم قبل أن يحملهم مسؤولية ما يسلكون ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) (الأنعام:131).. فكان من عدله سبحانه أن يبعث للناس الرسـل، وأن لا يحاسبهم أو يعاقبهم قبل أن تتبين لهم سبل الرشاد ويتم تعليمهم وتربيتهم وهدايتهم إلى السبل الواضحة المستقيمة: ( ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) (طه:134)، ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (النساء:165) [1] .. وعلى هذا كان من أولى وظائف الأنبياء والرسل الإرشاد والتعليم والهداية، وهي مهمة تسبق التشريع وما يترتب عليه من جزاءات: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (الإسراء:15). [ ص: 69 ]

      ومن هنا يصح القول: إنه ليست ثمة تكاليف من دون رسالة وبلاغ، وهذا يعني أنه لا يكفي أن يصوغ الشارع الشرائع، بل لابد أن يكلف رسلا لإبلاغ الناس الشرائع وتعليمهم أحكامها: ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) (الأنعام:19).

      وبهذا كانت التربية مرتبطة بالتشريع، والإسلام اعتمد منهج التغيير النفسي والاجتماعي مدخلا لتوفير الشروط الموضوعية لتطبيق الأحكام والنظم العامة.

      والحقيقة أنه لو راجعنا الآيات، التي نزلت في بدء الدعوة لرأيناها تركز على الجوانب العقيـدية والأخـلاقية، وذلك لتشـكيل الأرضية النفسية والتربوية لتقبل ما سيصدر من أحكام وتشريعات. ومن هنا كانت الآيات المكية في أغلبها آيات ذات طابع تربوي، ولما اكتملت شروط التغيير الاجتماعي النسبي ظهرت السور المدنية ذات الطابع التشريعي، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطبق قوانين الحدود وغيرها من الأحكام الاجتماعية إلا بعد أن تكون المجتمع الجديد.

      ومن هنا نقول: إن جدارة الدعوة ومنهج التغيير مشروطان باتخاذ التربية قاعـدة أساسية لإعـادة البنـاء، وإنه لا يصـح البـدء بالدعـوة كحركة قضائية أو منهجا عقابيا، فمهمة الداعية ليست مطاردة الخطائين أو محاسبة المذنبين، بل التزام القيم وفعل الخير والدعوة إلى سبيل الله: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) (يوسف:108)، ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (النحل:125). [ ص: 70 ]

      وعلى هذا يمكن وصف المسلم الداعية بأنه رجل تربية وإنقاذ وليس شرطيا أو قاضيا أو رجل عقاب. ومن ثم فإن حركته التغييرية لا يمكن وصفها بالرشد إذا ما اعتمدت القوة أو الإكراه أسلوبا، ذلك أنه ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)، و ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11).

      من جهة أخرى، إن الإسلام في إطاره النظامي لا يقرر العقوبات قبل الإعلام بها، فالعقوبة مشروطة بالنص عليها، وقد سبق الإسلام الكثير من النظم العقابية حين اعتمد قاعدة "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص". فتحديد الأفعال الأساسية المجرمة وبيان ما يقابلها من عقوبات في نصوص محددة أمر مطلوب ولا تتحقق العدالة من دونه، وحتى الأفعال غير المنصوص عليها والتي تسمى عقوباتها بالتعازير لابد أن تكون معلومة كأفعال مجرمة، وإن ترك مقدار عقوباتها إلى سلطة القاضي التقديرية.

      لذلك، نجد الإسلام قد يلتمس العذر لمن يجهل القانون ابتداء بصرف النظر عن القاعـدة التشـريعية المعروفـة "الجـهل بالقانون لا يعتبر عذرا". وهذا - كما يقول د. عبد الرزاق السنهوري [2] - هو الظاهر في الفقه الإسلامي، الذي يذهب أكثر رجاله إلى أن المرء يظل معذورا بجهله مالم [ ص: 71 ] يصحب ذلك الجهل تقصير أو تعمد في ارتكاب الخطأ، ومن ثم فانسداد العلم بالحكم الشرعي أو صعـوبة معرفته قـد يشـكل عذرا يسوغ إسقاط العقوبات المغلظة - كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة [3] - ويحولها إلى عقوبات مخففة نسبيا، مثلما هو الحال مع السلوكيات المختلف بتحريمها فقهيا.

      والحقيقة أن الحكم بالعقوبة ونفاذها مشروط بإدراك الجاني لحقيقة ما فعل تمام الإدراك، والوعـي بالحكم المقرر لذلك، وأن لا يكون قد ارتكب الفعل وهو جاهل بالحكم، كما في حالة إذا ما عقد رجل على امرأة عقد زواج وكانت المعقـود عليهـا من محـارمه وهـو يجهـل ذلك، فالجهل هنا يمنحه العفو أو يعفيه من العقاب.

      ( جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال: ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه.. قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه.. قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله: فيم أطهرك؟ فقال: من الزنى.. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون.. فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر.. قال: فقال [ ص: 72 ] رسـول الله صلى الله عليه وسلم : أزنـيت؟ فقال: نعم.. فأمر به فرجم ) [4] ... وفي رواية عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ( لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت، قال: لا يا رسول الله... قال فعند ذلك أمر برجمه ) [5] .

      إذن، فالعلم بحقيقة الجريمة وإدراك تجريمها قانونا لابد من توفره عند مرتكبها حتى يمكن إخضاعه للمحاسبة والجزاء.

      ومع ذلك، فالجهل بالقانون لا يعد عذرا على وجه الإطلاق، فبالنسبة للأفعال الواضحة في التحريم والتجريم لا يمكن الدفع بالجهل، وهذا أمر تقتضيه مصلحة النظام العام للمجتمع، إلا أن الباب سيتسع لجميع المخالفات وفق حجة الجهل بالقانون [6] .

      لقد قسم الفقهاء أنواع الجهل بالأحكام إلى نوعين:

      - جهـل لا يعـذر فيـه صاحبـه، وهذا يشمـل مـا حرم بنحـو قـاطع ولا شبهة فيه ولا يحتمل التأويل، كما هو الحال مع جرائم الحدود والقصاص كالقتل والزنا والسرقة.

      - جهل في مسائل يمكن الاشتباه في شأنها مثل المسائل، التي يحتاج فهمها إلى ضرب من التفسـير أو التأويل، أو وجود العذر أو الشبهة كجهل المسـلم، [ ص: 73 ] الذي دخل لتوه في الإسلام بحرمة شرب الخمر، أو إذا كان الفعل المرتكب يتنازعه اجتهادان ولم يكن النظام الإسلامي قد اعتمد أحدهما قانونا عاما [7] .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية