عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، يقول تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) (ق:16-18).
هذه الإحاطة الشاملة والدقيقة بعلم الإنسان ومعرفة أمشاجه ومكوناته، قابلياته واستعداداته، والنفاذ إلى كنهه ومخبوءات نفسه ( ونعلم ما توسوس به نفسه ) ، هذه الإحاطة العلمية بهذا المخلوق اللغز، الذي تاه وحار بفهمه وفك شفرته ورموزه والإحاطة بخارطته ومعرفة دواخله العلماء والمفكرون والفـلاسفـة، لا يمكن أن تتحقق إلا من خالق هذا الإنسان، يقول تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14).
فخالق الإنسان هو الأعلم به وبما يصلحه، حتى الملائكة المقربون اقتصر حد علمهم على تخوفهم من إفساده في الأرض، فقالوا: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ؟ فأجابهم الله بما يدل على شمول علمه: ( إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30)، فقد يقرأ المخلوقون، بمن فيهم [ ص: 5 ] الملائكة، جانبا بسيطا أو بعدا واحدا من أبعاد الإنسان، من أمشاجه، ولكن تغيب وتخفى عنهم أبعاد كثيرة.
وسيبقى هذا الجرم الصغير، الذي انطوى فيه العالم الأكبر، وسخر له الكون، من بين سائر المخلوقات، لغزا معقدا، سواء على المستوى العضوي البيولوجي أو النفسي السيكولوجي.. وما بلغته البشرية حتى اليوم من تراكم عـلمـي ومعرفي في علـوم الإنسـان من خصـائـص وصفـات إنسـانية مشـتـركة لا يتجاوز الهامش، ويبقى المجهول أكبر بكثير من المعلوم؛ إننا بذلك نكتشف جهلنا بالإنسان، فكل إنسان عالم قائم بذاته، ولو تماثل وتشارك مع غيره.
لذلك نسارع إلى القول: إن مفاتيح شخصية هذا المخلوق المعقد المركب، التي تساعد على فهمه وقراءة شخصيته وكيفية التعامل معه مركوزة في وحي الخالق، فهو أعلم بما يصلحه وما يفسده، أعلم بدوافعه ونوازعه، بوسائل تزكيته نفسه وعوامل تدسيته، يقول تعالى: ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) (الشمس:7-10).
لذلك، فالتيه والضلال عن هدى الله وغياب أبجدية الوحي في قراءة الإنسان يؤدي إلى التيه والضياع في وضع مناهج تربيته وتشريعات ضبط سلوكه؛ وما مصير الكثير من الفلاسفة والمفكرين، الذين فقدوا بوصلة الوحي فانتهوا إلى ما انتهوا إليه عنا ببعيد.
والصلاة والسلام على الرسول الموحى إليه، المعلم المربي، الذي بعث في الأميين ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2). [ ص: 6 ]
ولعل الأمر الجدير بالنظر هنا أن الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم الذي نيط به مباشرة التعليم والتربية والتزكية، مؤيد ومسدد بالوحي، وهو ابن مجتمعه، ابن قومه: ( منهم ) ، لذلك فهو أكثر دراية بمشكلاتهم ومعاناتهم وضلالهم وما يصلح لهم، وما أفسدهم ويفسدهم.. هو رسول منهم، هو بشر من البشر، يجري عليه ما يجري على سائر البشر، ويتصف بصفات البشر، بدوافعهم ونوازعهم، إلا أنه يوحى إليه؛ وهو ببشريته ومعرفته بعلل الناس ومجتمعاتهم مؤهل لأن يكون قدوة للإنسان في جميع أنشطته، فهو المثل الكامل، الذي جسد قيم الوحي في جميع المجالات والمسالك الحياتية، ولولا تلك البشرية لما أمكن أن يكون قدوة للبشر؛ إذ كيف يكون قدوة من لا يحس إحساس البشر، ولا يطيق طاقة البشر، ولا يعيش حياة البشر؟ فهو المربي المزكي، الذي يقدم الأنموذج من حياته وأخلاقه، في شـتى المجالات، مستهديا بهدي الوحي، ورعاية الله، الذي لا يضل ولا ينسى.
والتربية بالقدوة أعلى أنواع التربية، وأبلغها تأثيرا، وأقومها منهجا، وأصدقها قولا.
والتربية بكل تعاريفها ومدلولاتها هي الآداب والأخلاق والقيم السلوكية، التي تطبع حياة الإنسان، وتعده للتعامل مع الحياة، بكل أبعادها وآفاقها، بشكل سليم، وتؤهله للمصير الطيب، وفق معطيات الوحي ومسالك النبوة. [ ص: 7 ]
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثالث والستون بعد المائة: "بين التربية والقانون"، للدكتور علي القريشي، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها الدائب لإعادة صياغة الشخصية المسلمة في ضوء هدايات الوحي، ووفق قيمه المعصومة، واستهداء بسلوك الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم ، واقتفاء بحياة الأصحاب في القرون المشهود لها بالخيرية والعدالة، ومواجهة صور الغلو في الدين، والانحراف بقيمه، والاعوجاج بفهمه، والتأويل الباطل لنصوصه، والتشويه المتعمد وغير المتعمد لتنزيله على الواقع بفقه قليل وعقل عليل.
لقد باتت الحاجة ماسة اليوم، ونكاد نقول: إنها تشكل أولوية الأولويات جميعا، إلى تصويب الفهوم المعوجة لقيم الدين، التي كادت تستقر بأذهان كثير من البسطاء، ومواجهة التدين المغشوش، والتشويه المنفر لصورة الإسلام، ومحاولات بعض الجماعات والتحزبات احتكار مفاهيمه، وفرضها على الأمة على أنها هي الدين، على الرغم من كل المصائب التي تحملها، حيث لا بد أن نعترف، بعد هذا الغياب المذهل للعلماء العدول من كل خلف، الذين يحملون قيم الدين وينفون عنه الخبث والعوج، أن صورة الإسلام باتت مهتزة في كثير من المجـالات، حـتى في الداخل الإسـلامي، كنتيجة لهـذه الممارسات الجاهلة أو الاختراقات الماكرة.
لقد غابت أو غيبت صورة المسلم، الذي يثير الاقتداء بسلوكه، ويغري بالاتباع، ويقدم أنموذجا متميزا مختلفا عما حوله، في كل شؤونه وأنشطته؛ لقد [ ص: 8 ] أصبح الكثير منا لا يختلف عن الآخرين إلا بالعناوين، أما المضامين والمسالك والتعاملات فهي واحدة تقريبا، بل لعلنا نقول، مع الأسف: إن المعادلة الصعبة ومخاطر الفتنة أن أفرادا من غير المسلمين يعملون في الواقع بما تقتضيه القيم والأخلاق الإسلامية ولو لم يشهدوا أن "لا إله إلا الله"، وبعض من يشهدون: أن "لا إله إلا الله"، التي تشكل عتبة الدخول للإسلام، لا يعملون بمقتضاها!
فكيف لنا أن نقرأ الصورة بأبجدية صحيحة، وأن نحيط بعلمها، وندرك أسبابها، ونعيد النظر والمراجعة لمناهجنا ووسائلنا وأدواتنا وأولوياتنا، ونحدد مواطن الخلل التربوي، ونستهدي في الترميم وإصلاح العطب بقيمنا وتراثنا، لنعيد الصياغة ونصلح الخلل، ونزيل الركام عن صورة وحقيقة المسلم، ونستطيع أن نقدم للعـالم اليوم، وهو أحوج ما يكون، إنسانا جديدا يمثل القيم الإسلامية ويمثل الأخلاق الإسلامية، التي تمحضت البعثة النبوية لبنائها وإتمامها: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) (أخرجه البيهقي).
لقد بات من الأهمية بمكان أن يفقه العاملون، في حقل الاجتهاد والتجديد والدعوة والعمل الإسلامي، مقاصد الدين، ويفقهوا العالم من حولهم، ويحسنوا اختيار وسائلهم وتقديرهم للأمور ضمن توفر مجموعة من التخصصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأولا وقبل كل شيء إبصار مقاصد الدين، وربط إنفاذها بحدود الاستطاعة، مناط التكليف، والوقوف بجرأة، وبكل الوسائل المشروعة، بعيدا عن المجاملات أو المعاذير أو النزوع العاطفي، لبيان فساد الفهوم السائدة وعجزها وقصورها عن انتشال المسلم [ ص: 9 ] اليوم، أو الإنسان اليوم، والحيلولة دون تلك الفهوم المعوجة، التي باتت تأخذ طريقها إلى الناس، بذريعة الخوف على الإسلام، أو الخوف على تحلل الصفوف، أو الخوف من تفرق المسلمين وتبصير الأعداء بعللهم وأمراضهم وانحرافاتهم!!
وعزاؤنا في إيماننا أنه مهما لحق الأمة المسلمة والإنسان المسلم من الإصابات وعلل التدين ومحاولات المكر به وبدينه فإن الأمة بمجموعها ومن خلال عزائم أفرادها قادرة على معاودة النهوض، بما تمتلك من قيم تربوية وتشريعية معصومة، وبما تمتلك من إمكان حضاري وتجربة تاريخية متميزة، وتراث غني بعطائه وتنوعه، إضافة إلى استمرار وجود الطائفة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم القائمة على الحق، التي تجسد القيم والأخلاق الإسلامية في حياتها، بقوله: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) (أخرجه مسلم).
هذه الطائفة تشكل وسيلة النقل الصحيح والفهم السليم لقيم الدين وتجسيده في حياتها، وتشكل خمائر اجتماعية تساهم بإعادة صياغة المسلم كفرد، والمجتمع والأمة، هذا علاوة على أن الأمة، بشكل عام، حاملة الرسالة الخاتمة والنص الإلهي السليم إلى العالم، تأبى الانقراض والموت؛ والاستقراء للتاريخ الحضاري يدل على أن كثيرة تلك الحضارات، التي سادت ثم بادت، عدا الأمة والحضارة الإسلامية، فإنها قد تمرض ويصيبها الوهن الحضاري وتلحق بسلوكها العلل والإصابات والأمراض، لكنها سرعان ما تنهض، بما تمتلك من [ ص: 10 ] قيم تربوية، فتعيد صياغة الإنسان، فالله لم يسلط عدوها عليها تسليط استئصـال وإبادة وإنـمـا هـي منبـهـات حضـارية وعـقـوبات عـلى معـاص وقعت بـها لتـؤوب إلى رشـدها، قال تعالى: ( لن يضروكم إلا أذى ... ) (آل عمران :111).
وهذا، بقدر ما يشكل تفاؤلا وعزاء وأملا في التجاوز والنهوض واقتحام العقبات بقدر ما يتطلب من جهد واجتهاد ووسائل ناجعة في تجديد العزائم وجمع الطاقات واسترداد الفاعلية وإعادة صياغة الشخصية المسلمة وفق قيم الوحي ومتطلبات العصر.
وتبقى الإشكالية الكبرى، بعد أن صارت الأمة إلى ما صارت إليه من التقهقر والتراجع والتخلف والسقوط الحضاري، على الرغم من الإمكان، الذي تتوفر عليه، من النص الإلهي الصحيح، الذي ورد بطريقة علميه تفيد اليقين (التواتر) وتجربة النبوة التاريخية، كما تتوفر على البيان النبوي الخالد، الذي خضع لأدق مناهج النقل والتوصيل، والسيرة النبوية، وحياة الصحابة الكرام، التي جسدت معطيات الوحي في مسالك الناس، والتجربة الحضارية التاريخية، التي أورثت هذا التراث العظيم... تبقى الإشكالية الكبرى والسؤال الكبير: كيف نبصر الأدوات والوسائل والمناهج، ونسترد بوصلة الوحي في الهداية، وبذلك نفقه الوحي ومقاصده، ونفهم الواقع والعصر واستحقاقاته، ونضع الخطط التربوية لإعادة صياغة الإنسان الجديد المتجدد، الذي يغري بسلوكه ويدعو الناس بإثارته الاقتداء. [ ص: 11 ]
فقد تكون الإشكالية الكبرى اليوم: غياب أبجدية فقه النص، بطبقاته كلها، وعدم استصحاب التراث بتنوعاته وحالاته، والقدرة على تجريده من ظروف الزمان والمكان وتوليده في كل زمان ومكان، تحقيقا للخلود، وعـدم القـدرة عـلى الإنتـاج، وغيـاب التخـصـصـات العـلمـيـة والمعـرفية، الـتي لم توفرها مؤسسات التربية، لفهم الواقع وحسن تقدير استحقاقاته، الأمر الذي أدى إلى العبث بتنزيل نصوص الوحي على الواقع، والعبث أيضا بحسن اختيار مواقع الاقتداء في السيرة، المناسبة لواقع الناس، والخلط بين الاستطاعة وحدود التكليف.... تلك الفهوم والمعطيات التربوية الثقافية المشوهة تشكل الإصابة الكبرى، والعقبة التي تتحدى في اقتحامها.
ومهما حاولنا أن نجهد أنفسنا في بيان محاسن القيم التربوية الإسلامية ومرونتـها التشريعية ونمـاذجهـا القضائية والقانونية، دون القـدرة على تجسيدها في حياة الناس، وتحويلها من منابر الوعظ والإرشاد المعلقة فوق رؤوس الناس إلى واقعهم ومسالكهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم اليومية، فنخشى، شيئا فشيئا، أن تفتقد قيمتها وتضعف القناعة بها على أيدينا، فتسهل عملية تشويهها من قبل خصومنا أو أعدائنا، حيث ما نزال نعيد ونزيد عن عظمة تاريخنا وتراثنا وقيمنا دون أن نمتلك القدرة على ترجمة هذا الكلام إلى واقع محسوس في حياة الناس، ولا تخرج الجهود عن محاولة لتغطية الفشل والتخلف وسوء التقدير ومعالجة مركب النقص، الذي نعاني منه.
فمـا الفائـدة إذا كنا نمتـلك أعظـم القيـم وأغناها تجـربة وعطاء ومع ذلك نقف عاجزين عن تصنيع حياة الناس وسـلوكهم بـها؟! فحياتنا تحولت [ ص: 12 ] إلى شعـارات وعناوين براقة، أما المضامين والأعمال فمحزنة: "اقرأ تفرح، جرب تحزن".
وقد يكون من شديد البلاء وسوء الفتنة وفساد الأدب والتربية ما أصبحنا نراه ونقرأه ونشاهده من التطاول والادعاء واستمرار محاولات الغش في التنظير، والقفز من فوق الحقائق، والتكسب بالقيم الإسلامية، سواء بالفكر أو بالفقه!
لقد بلغت الجراءة على الحق وسوء الأدب مع الناس ومحاولات التطاول على الفكر وأهله أن يكتفي بعض الأدعياء، الذين لا يمتلكون من العلم والأهلية والتخصص إلا الانتساب إلى حزب مذيل بالإسلامي، أو أن يكون عضوا في جماعة ترفع شعار وراية الإسلام، بذلك الانتماء، فيعطي نفسه الحق بإصدار الأحكام الشرعية، وإسقاطها على رؤوس الناس، وأخذهم بها، والعبث في تطبيقها، وتشويهها(!) وبدل أن تربي بعض هذه الجماعات والأحزاب أعضاءها على أهمية التخصص والمعرفة للحكم على الأشياء، وتربي على أدب المعرفة والفقه، أصبحت ميدانا للتطاول والجرأة على دين الله والمسالك الفاسدة والتربية الشاذة(!!) فأين القيم التربوية من واقع الكثير ممن يرفع شعارات الإسلام؟!
وقد يكون من المفيد هنا أن نؤكد أن هذا الإنسان (ذلك المجهول) الإنسان الأمشاج -كما أسلفنا- الذي ينطوي فيه العالم الأكبر:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
العالـم الأكبر، بكل مكوناته وتعقيداته وأسـراره وأغـواره، هـذا المخـلوق لا يمكن لنا، مهما حاولنا، الإحاطة بعلمه، لا عضويا ولا نفسيا، ولا أبعاد [ ص: 13 ] إمكاناته وطاقاته الهائلة، وبالتالي سوف تبقى وسائلنا في التربية وصناعة الإنسان قاصرة عن تحقيق الكثير من غاياتها.
ولعل معظم أسباب الفشل والضياع التربوي، الذي عانت منه الفلسفات والمذاهب والعقائد والنظريات التربوية هو إضاعة بوصلة الوحي الإلهي، تلك البوصلة التي جاءت ثمرة لعلم الله الخالق الشامل، الذي يعلم السر وأخفى، الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، تلك البوصلة التي تشير لنا إلى طرائق التزكية والطهارة والحياة الطيبة، وتحذرنا من مزالق التدسية والفساد وسفك الدماء وحياة الضنك!
هـذا إضـافة إلى أن الإنسـان، هـذا المخـلوق العـجيـب، الذي تعتبر تربيته (صناعة) من أصعب الصنـاعات، بل تربيـته من الصناعات الثقيلـة: ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5)، لا يمكن أن يقاد من خارج نفسه، من خارج قناعاته، أن يقاد بالاغتصاب والإكراه والإجبار؛ لأن ذلك يتنافى مع تكوينه وخلقه.
كما أنه لا يمكن أن يوكل أمر الإنسان وضبط سلوكه لنفسه أو لضميره أو لرقابته الذاتية فقط، فنفسه مهيأة للنزوع إلى الفساد في الأرض وسفك الدماء: ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ، كما أنها في الوقت ذاته مؤهلة لفعل الخير وممارسة الصلاح والإصلاح الموصل للفلاح، وتتسامى في ذلك لدرجة تتجاوز رقابتها الذاتية وتشكيلها للسلوك ضبط القانون: ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) . [ ص: 14 ]
لذلك كله، كان لا بد أن تتمحور مناهج التربية حول بناء قناعة ذاتية، وإيمان بدور القيم التربوية ونجاعتها، وأهمية تربية الوازع الداخلي، وإنضاج الضمير الفردي؛ تنمية الفطرة السوية ولجم الغريزة المنفلتة، مع إدراك أهمية أن لا يكون الكلام مجردا عن مقاصد وأهداف واضحة، واستشعار أهمية الاضطلاع برسالة تحقق سعادة الإنسان وتضمن له المصير الخير والحياة الطيبة، وربطها بالثواب، وانطـلاقها من الإيـمان برقيب السموات والأرض، الذي يعلم السر وأخفى، ولا يضيع عنده مثقال ذرة: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) (الزلزلة:7-8)، حتى يتحرك الإنسان بدافع ذاتي وقناعة ذاتية ووازع داخلي لفعل الخير، ولو تخلفت الضوابط والتشريعات القانونية من خارج النفس، أو قصرت عن الرقابة والمتابعة في كثير من المواقع، إضافة إلى أهمية الإيمان بارتياد آفاق تربوية للتجاوز والخلاص والتطهر من الذنوب والإساءات والخروج والشذوذ، التي يكمن الكثير منها في دواخل النفس الأمارة بالسوء، حيث تعمل هذه الآفاق التربوية على تنمية الإيمان بأهمية التوبة، ككفارة وغفران وسبيل للعودة إلى الاستقامة وطريق للخلاص وتجاوز الإصابات، وتجدد الطاقة الإيجابية في الحياة، وتجاوز الإحباط والتشاؤم والارتكاس.
وليس هذا كلاما نظريا، فقد لا يتسع المجال للإتيان على أمثلة لا تكاد تصدق، لسموها وارتفاعها بالإنسان وإنضاج ونضوج ضميره الداخلي، بشكل يكاد يظن معه أنه ضـرب من الخيـال، الـذي يتجـاوز عـالم الإنسـان، بحيث [ ص: 15 ] لا يحتاج معه لأي ضوابط وتشريعات إضافية من خارج النفس.. فالمسلمون في مكة تشكلت أمتهم ومسالكهم ومجتمعاتهم من خلال القناعة وتربية الوازع، وجاء سلوكهم متميزا متساميا، دون وجود تشريعات وقوانين ملزمة وقبل قيام الدولة، ليبقوا منارات خالدة على قدرة القيم التربوية الإسلامية على العطاء في كل الظروف والأحوال، وحتى ضمن بؤر ومناخات ومجتمعات غير إسلامية، ولو تخلفت القوانين والتشريعات عن الإسهام في الضبط الاجتماعي.
ولم يكتف الإسلام بتربية الوازع الداخلي والرقابة الذاتية، وبيان الصراط المستقيم، وترتيب الثواب والعقاب عليه، والبدء بقيادة الإنسان طواعية من داخلـه ومن خـلال قناعـاته، دون إكراه أو إجبار أو ثمرة لخـوف من قـانون أو عقاب، البدء بالإيمان ومقتضياته، والدعوة بوسائلها، ولو تأخرت أو تخلفت الدولة لسبب أو لآخر؛ لأنها صناعة معقدة ومتداخلة، وإنما اقتضت أمشاج الإنسان ومكوناته ونزوعه إلى الشهوات والاعتداء والظلم ونفسه الأمارة بالسوء إلى وجود التشريع الملزم، بعد بناء القناعة وتأسيس الإيمان وإقامة الحجة، القانون الضابط للمسيرة، المحدد للجرائم والمخالفات، المعاقب عليها، للجم الغريزة والحيلولة دون الفساد وسفك الدماء: ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) .
لقد جاء خلق الإنسان، هذه العجينة، التي تمتلك القابليات والاستعدادات والميول والحرية والاختيار، تمتلك الفطرة والغريزة -والله أعلم بمن خلق- خلاف خلق الملائكة؛ ذلك أن الملائكة مخلوقات مسيرة مبرمجة على [ ص: 16 ] فعل الخير، أما الإنسان فهو المخلوق المختار من تكوين يحمل الاستعداد لفعل الخير، استجابة للفطرة، والنزوع أحيانا إلى المعصية وفعل الشر والفساد، سقوطا في حمأة الغريزة، لذلك كان لا بد من تنمية وتزكية للفطرة، وتشريع لحمايتها والحيلولة دون الخروج عليها، استجابة لضغط الشهوة: ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) (فطرة وتربية وتسابقا في الخيرات ونمو جانب الخير على منازع الشر والحقد والحسد) ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ) ( غيرة وحقدا وحسدا وغريزة) ، فاقتضى ذلك تشريعا رادعا: ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) (المائدة:28-31)، ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ... ) (المائدة:45).
من هنا نقول بضرورة ولزومية التشريع الضابط لسلوك الإنسان وعقوبته عند الخروج عن الاعتدال والاستواء، وإعادته إلى الطريق السوي، وردع الآخرين عن القيام بمثل تلك المسالك المنكرة، حال لم تجد معهم الوسائل التربوية.
وإن كنا نقول هنا: إن التشريعات الملزمة العادلة ذات مرجعية الوحي الإلهي من خارج النفس هي وسائل ذات أبعاد وأهداف تربوية إصلاحية [ ص: 17 ] تتكامل وتتعاضد وتلتقي مع التربية من داخل النفس، لذلك تعتبر العقوبة القانونية الشرعية في الدنيا كفارة عن الذنب وجبرا للشذوذ والخروج عن الاستقامة: ( ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب به في الدنيا، فهو طهرة له ) وبذلك يصبح السعي إلى العقوبة وتطبيق القانون، ولو تخلفت الأدلة والبيانات، مطلبا للتطهر والخلاص والتكفير عن الذنب.
والحقيقة التي لا مرية فيها أن عجينة التربية والقانون في الإسلام واحدة، بحيـث يصعـب فصـلهما؛ لأن مصـدرهمـا واحـد، وهدفهما واحد، والتربية تبقى تشكل البلازما الضرورية بالنسبة لفاعلية الضوابط القانونية واحترامها والالتزام بها.
فإذا كانت الوسائل التربوية محلها الأساس إصلاح الفرد، أساس المجتمع، فإن التشريعات القانونية الملزمة محلها الفرد والمجتمع، وحماية النظام العام؛ والأمران متكاملان.
فإذا كانت القيم التربوية متأتية من خالق الإنسان، العالم بأحواله، وكانت العقوبات والقوانين والتشريعات متأتية من نفس المصدر، يصبح الالتزام بالقيم الأخلاقية والضوابط التربوية طاعة وعبادة ومصدر ثواب وراحة واطمئنان وسكينة نفس، وتصبح الاستجابة للتشريعات والالتزام بها والإسراع لإنفاذها طاعة وعبادة وكفارة وسبيل خلاص مما يمكن أن يلحق الإنسان من إصابات وممارسات تأتي ثمرة لضعفه أو للحظات كمون إيمانه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق [ ص: 18 ] حين يسرق وهو مؤمن... ) (أخرجه البخاري)، فمعاصي الجوارح واردة على بني البشر في لحظات الغفلة والذهول عن مقتضيات الإيمان والسقوط تحت ضغط الشهوة.
ويبقى الأهم توفر الانسجام بين القيم التربوية الموجهة للسلوك والتشريعات والقوانين الضابطة للسلوك، ليعيش الإنسان حياة هانئة، بعيدا عن القلق والتوتر والازدواجية وتعدد الولاء وتمزق الشخصية وبعثرة الانتماء.
فالإشكالية عند إنسان اليوم تكمن أو تتمحور حول التنازع بين القيم والمسالك التربوية وبين التشريعات القانونية، بسبب اختلاف مصدرهما، وعندها يفتقد الإنسان السعادة وسكينة النفس والاستقرار، ويقع فريسة لهؤلاء الشركاء المتشاكسين، فيعيش مشوها، مهزوز الشخصية، مضطرب السلوك، مزدوج الانتماء والولاء؛ كل على نفسه ومجتمعه.
وقضية التعامل مع التشريعات الملزمة والقوانين الناظمة للحياة، الضابطة لمسيرتها، وآليه تنزيلها على واقع الناس باتت اليوم إشكالية كبيرة وعلى غاية من الأهمية، وخاصة التشريعات الإسلامية، أو الشريعة الإسلامية، وكيفية تطبيقها في المجتمعات المعاصرة أو مجتمعات المسلمين وغير المسلمين.
ونسارع إلى القول: إن التشريعات الملزمة والعقوبات الرادعة إنما وضعت في الأصل لحماية المجتمع المسلم من الفساد وسفك الدماء، وليس لإقامة المجتمع حال خلوه من القيم التربوية، لذلك فإن غياب فقه التنزيل، الذي [ ص: 19 ] يتطلب تقدير الاستطاعة، مناط التكليف، أدى ويؤدي إلى الكثير من العبث بأحكام الشريعة وإسقاطها بشكل عشوائي دون فقه لمحل تنزيلها وتوفر شروط الاستطاعة، حيث ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286).
هذا العبث، أفقد الكثير من أحكام الشريعة مقاصدها وأهدافها التربوية والاجتماعية والحمائية، وبدل أن تكون حامية للجميع من الفساد وسفك الدماء تحولت لتصبح وسيلة لسفك الدماء! وهذه التطبيقات المشوهة والمغشوشة تفقد الثقة فيها والإقبال عليها لحل مشكلات الناس، ولعلنا نقول: إنـها تحولت على أيدي بعض الغلاة وأصحاب التفكير المعوج والتدين المغشوش من حل ينتظره الناس ويأملون به للخلاص إلى التوهم أنها مشكلة تحمل لهم العنت والعذابات.
ولعل من أخطر جوانب غياب فقه الأحكام وتطبيق الشريعة اليوم ما نراه من ممارسات شاذة وجاهلة وغالية وغير إنسانية تحمل في طياتها سوء التقدير وخطورة النتـائج، ذلك أن تنفيذ الأحكام وإيقاع العقوبات، كما هو معلوم، إنما هو منوط بالسلطة المسلمة، وليس شأنا فرديا يمارسه من يشاء كيف يشاء؛ لأن تلك الممارسات تحول المجتمع إلى لون من الفوضى والاضطراب وغياب الاختصاص والعدل وشيوع الثأر وتفشي الحقد، نتيجة سوء التقدير.
إن نصيب الفرد من خطاب التكليف، وخاصة في مسائل تنفيذ الأحكام وتطبيق الشريعة وإيقاع العقوبات، إنما هو العمل على بناء السلطة المسلمة المؤمنة بذلك، التي تمتلك المتخصصين من الفقهاء والقضاة والجهاز التنفيذي، [ ص: 20 ] أما ادعاء بعض الأفراد، في حال غياب السلطة المسلمة، أنهم هم السلطة، وهم الدولة، وهم الأمراء، في الوقت الذي لا يمتلكون ما تحت أقدامهم، ويدعون الاضطلاع بمسؤولية الإمامة العظمى في الأمة، ويمارسون مسؤولياتها، فذلك عبث لا يرضاه شرع ولا دين ولا عقل؛ لذلك وبدل أن يفر الناس إلى الله طلبا للعدل والنجاة من القوانين الظالمة والاستبداد والاستعباد والظلم يهربون من الإسلام وممارسات مدعيه الشاذة!! فأين الدعوة والتربية بالقدوة، التي كان عليها السلف الصالح، الذين ندعي الاقتداء بهم؟!
ونعجب أننا ندعو الناس فلا يستجيبون لدعوتنا!
إن هذا الخلل، الذي لحق بالعقل المسلم أو بالذهنية الإسلامية والذي بتنا نعاني منه على أكثر من صعيد في داخل (الذات) هو أصل الشر وأصل المآسي والتناقض والتباين التربوي والثقافي.
ففي الوقت الذي يعلق فيه كثير من الذين يرفعون شعارات الإسلام ويتحزبون لها، تطبيق أحكام الشريعة والاستجابة لتكاليفها على قيام الدولة الإسلامية أو عودة الخلافة، وبذلك يعفون أنفسهم حتى مما يقع ضمن استطاعتهم وطاقتهم من تكاليف تخص الفرد والأسرة والجماعة والمجتمع، بانتظار قيام الدولة، نجد في نفس الساحة آخرين يحملون شعارات إسلامية ويتحزبون لها ويتعسفون في التعامل مع أحكام الشريعة، ويعلنون أنه في حال غياب الدولة المسلمة وعدم تطبيق الشريعة والقانون الإسلامي فهم الدولة، وهم ولاة الأمور، وهم الأمراء، الذين يعلنون الحرب والسلم والجهاد والأسر والسبي والغنيمة وما إلى ذلك مما لا يرضى به عقل ولا نقل. [ ص: 21 ]
فكم هو خطير هذا الركام الثقافي، والغبش في الرؤية، والضلال في السعي، والعوج في التفكير، والقصور في الفقه، والسوء في الاقتداء، والعبث في التعامل مع قيم الوحي، الذي يحتاج إلى العلاج والعودة بالناس إلى الجادة البيضاء النقية!
وليس أمر القراءة النصفية الانتقائية لنصوص الوحي، التي تورث العبث واختلال النسب في التعامل مع القيم التربوية بأقل خطورة اليوم من العبث في تنزيل أحكام الشريعة على واقع الناس، ذلك أن الكثير اليوم لم يبصر من نصوص الوحي إلا الجانب التربوي، ومن السنن الاجتماعية إلا السنن الخارقة، التي هي من شأن الله وقدرته، ويذهب بذلك كل مذهب، بعيدا عن ضوابط الشريعة، فيقع بما وقع به الفلاسفة والزهاد والعباد والغلاة من علل تدين الأمم السابقة، وينسحب من المجتمع، ويدعه فارغا لامتداد أنظمة وأحكام لا علاقة لها بنصوص الوحي ولا بمقاصده.
لذلك نقول: إن عملية المراجعة والتصويب، بعد هذا الضياع والفساد، أصبحت من الأولويات؛ والعمل على إقامة العلماء العدول، الذين يمتلكون الفقه في الدين والفهم للواقع ويستشعرون مسؤولية التصويب والمناصحة، بعيدا عن حالات التستر والمجاملة، أصبح ضرورة، أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك فقد نقول: إنه على الرغم من بقية البقية من إرث الوحي، التي تعيش عليها مجتمعات المسلمين اليوم، ما تزال تلك البقية تنقذها من كثير من [ ص: 22 ] الأزمات والمخاطر، التي تعيشها المجتمعات غير الإسلامية وإنسانها المأزوم، رغم تقدم أدواتها ووسائلها وقوانينها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية.
وقد تتمحور الإشكالية، أو معضلة العاملين للإسلام ومرضهم المزمن، حول غياب ثقافة النقد والمراجعة والمناصحة بالشكل المطلوب، رغم أن المناصحة بالنسبة للمسلم مسؤولية ودين.
إن هذا الغياب الخطير سوف يزيد من التصلب، ويؤدي إلى تكريس الخطأ، ويصنف القائم بالنقد والمناصحة في جملة الخصوم، إن لم نقل الأعداء، ويجعـل أعـداء العمل الإسلامي هم الأقدر على توظيف النقد، والإفادة منه في إنهاك وتوهين الفاعلية، ومحاصرة العطاء، وتشويه الصورة، من العاملين للإسلام أنفسهم.
ولا شك عندنا أن ما يموج به عالم المسلمين، دون سواه، من فتن وقتل ودمار واضطرابات وانفجارات مذهبية وطائفية وغياب يكاد يكون كاملا للنظام والقانون ولجميع القيم التربوية الإنسانية لم يأت من فراغ، وإنما وراء ذلك أسباب خفية، وكيود وعداوات تاريخية، واختراقات إقليمية ودولية تدفعه إلى هذه المحارق، التي تأكل الأخضر واليابس، ذلك أن الاقتصار على العلاج الأمني فقط أصبح يشكل وقودا للفتن، ويبقينا أدوات ورهائن للعبة الدول، فهل نعي الحقيقة؟
وهل أريد لعالم المسلمين أن يفتقد النظام القانوني والقيم التربوية معا، رغم رصيده الحضاري؟ وهل يجيء انفجار الألغام الطائفية والمذهبية والقومية في [ ص: 23 ] جوفه بمجرد الصدفة - حيث لا صدفة في هذه الحياة- ويقضى على تطلعاته، ويصور على أنه مخزون للإرهاب والإرهابيين، وتصنع الصور والشواهد والممارسات الشاذة لتأكيد ذلك، ويقتصر التعامل معه على المنطق الأمني بدل مقتضيات العقل والحكمة، وفي ذلك ممارسة إرهاب أشد وأعتى، وفي أحسن الأحوال التمكين للعنف والإرهاب والتطرف ليكون مدخلا لمعاودة الاستبداد والاستعباد وتشريع قوانين الطوارئ وكتم الأنفاس؟!
ونعاود القول: إن مثل هذه الصور الرعيبة، التي يمر بها عالم المسلمين والتي باتت تشكل ظاهرة خطيرة تستدعي من العقلاء والفقهاء التفكير بالأسباب ووسائل معالجتها، والعودة بالناس إلى عطاء قيم الدين الصحيحة، التي ما جاءت إلا لإلحاق الرحمة بهم، وعدم ترك الموضوع لمؤسسات الأمن المحلية والعالمية، التي تزيدها اشتعالا وأوارا، وتؤدي لاستدعاء الاستعمار والوصاية الدولية من جديد.
وبعد:
فهذا الكتاب، محاولة جـادة ومقدورة لتجديد الذاكرة، وتنقيتها مما لحق بها من شبهات والتباسات وممارسات شاذة، وإعادة اللحمة بين البناء التربوي والنظام القانوني، وإبصار أبعاد الانسجام والتناسق والتكامل بين أدوات ووسائل البناء التربوي وإنضاج الضمير الذاتي وإيقاظ الوازع الداخلي والارتقاء بالرقابة الذاتية، وبين التشريعات القانونية من خارج النفس، المتأتية من مرجعية الوحـي، وما تتمتـع به من قـدسية واحـترام تجعـل المسـلم يخف لتطبيقها؛ [ ص: 24 ] لأنـها بالنسبة له طاعة وكفارة: ( ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب به في الدنيا، فهو طهرة له ) بينما نجد أن القوانين، التي لا صلة لها بعقيدة الإنسان، وقد تتناقض معها، يحاول الإنسان التملص منها والتخفي عنها.
فمرجعية الوحي للبناء التربوي والنظام القانوني تجعلهما ينطلقان من مشكاة واحدة، يتعاضدان ويتشاركان في تحقيق الضبط الاجتماعي وحماية السلوك السوي، في خضم المحاولات المستمرة لتطويع وتمزيق الشخصية المسلمة، وتدجينها، وإخراجها عن قيمها، وتركها فريسة للصراع والتمزق، بسبب من تعدد مصادر التلقي والتحكم، وتعدد الشركاء المتشاكسين واختلافهم، وغياب التصور الحقيقي للرؤية الإسلامية في أبعاد العلاقة بين البناء التربوي والنظام التشريعي والقانوني.
وليس أقل من ذلك خطورة تلك الممارسات الشاذة والمتعسفة والعابثة في تطبيق الشريعة، تلك الشريعة التي جاءت رحمة للعالمين، على شكل لا يقره عقل ولا ديـن، ولا يقبله شرع ولا خـلق، ولا يقـوم عـلى أي قـدر من فقه أو عـلـم، أو على الجانب الآخر الانسحاب من الحياة وتكاليفها باسم تربية النفس وتخليصها من أدران الدنيا، وبتلك الممارسات من التدين المغشوش نـكون أكثر عداوة وتنفيرا ونيلا من القيم الإسلامية وأهلها، من كيود الأعداء واختراقهم للصف المسلم، ومحاولاتهم إبراز هذه الصور المشوهة من التدين المغشوش.
لقد منيت بالفشل الذريع سياسة الفصل بين القيم التربوية الأخلاقية المتأتية من الدين واعتبارها شأنا فرديا ذاتيا يخص الإنسان ويسكن ضميره بعيدا [ ص: 25 ] عن واقعه وقوانينه الاجتماعية والتشريعية، وبين التشريعات والقوانين الناظمة للدولـة والمجتمـع، ذلك أن تعدد مصـادر التلقي والتحكم وتناقضها لا ينتج إلا الشخصية المشوهة المزدوجة المهزوزة الحائرة الممزقة الانتماء والولاء، ويؤدي إلى محاولات الهروب من التشريعات القانونية المناقضة لعقيدتها وقيمها التربوية والأخلاقية، وعلى الأخص أن هذه التشريعات ليست محايدة، بطبيعة مصدرها، وإنما هي متحيزة لمصالح واضعيها، وسبيل للتسلط والتسخير للآخرين.
وسـوف يستمر إنسـان اليوم العيش برأسـين وجسـد واحد، تتملكه الحيرة والارتباك والتبعثر في الولاء والانتماء، فمن جهـة تنفره صـور التدين المغشوش والفهـم المعـوج، سـواء للقيـم الـتـربوية، التي أسـيء فهمـها، وما أورثنا ذلك من إماتـة تطلعـات الإنسـان وقتل فاعـليته ودفعـه للانسحاب من الحياة، أو ما يسمى تطبيقات الشريعة، أو القانون الإسلامي، بشكل متعسف وعشوائي، أو صور استخدام الإسلام وتوظيفه من قبل السلطان الظالم للاحتفاظ بالسلطة وشرعنة ممارساتها، أو في المقابل استخدام الإسلام وتوظيفه كمسوغ في المغالبة على السلطة ومحاولات الحصول عليها، الأمر الذي لا يقل تحيزا وتعسفا عن توظيف السلطان الظالم، الذي يحاول أن يجعل من الإسلام مسوغا لكل ممارساته وظلمه، وكأن قولة عبد الله بن المبارك، رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
تقرأ أحوالنا اليوم.
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 26 ]