- رابعا: التكاملية:
خصائص التلازمية والتعاضدية والتبادلية، التي ميزت علاقة التربية بالقانون في ظل النظام الإسلامي تفضي في النهاية إلى خاصية رابعة هي التكاملية، التي نعني بها استكمال وظيفة التربية بوظيفة القانون، ووظيفة القانون بوظيفة التربية. والحقيقة أن هذا التكامل لا يقوم على مجرد دعم شكليات القانون وشكليات التربية، بل يعمل بناء على المضامين والأهداف الأساسية لكل منهما، فالتربية تذهب في توجهاتها إلى العمق فتغذي الإحساس بقيمة العدل، بمعناه الحقيقي، الذي يتجاوز أحيانا العدل بمعناه القانوني. فهي تنمي ملكة الإنصاف ولو ضد (الذات) كأن ينصف المرء غيره من نفسه: "قل الحق ولو على نفسك"، ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) (الأنعام:151-153)، وهو مالا يتأتى إلا بتحريك الضمير، الذي يولد الإحساس بقدسية الالتزام بالعدالة حتى لو كانت ضد النفس ولصالح الخصوم: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة:8).
كما قد يحدث أن يصدر القاضي حكما لصالح الطرف المؤمن وكان الحكم مبنيا على معطيات ظاهرية لا تعبر عن الحقيقة، فالتربية الذاتية قد تصوب في هذه الحالة ما يذهب إليه القضاء من حكم يشوبه الخطأ، أو تبادر إلى سد النواقص أو الثغرات، التي قـد لا يدركها المحققـون أو القضاة، وذلك بما يحمله الطرف المؤمن من صدق ونزاهة وإنصاف. [ ص: 66 ]
من هنا فرق الفقهاء بين الحق الذي يوفره حكم القانون اعتمادا على المعطيات الظاهرية وبين الحق، الذي تفرضه الحقيقة ذاتها، حتى إذا ما فات التحقيق أو القضـاء إدراك وجه الحقيقية ولبها وقضى بحسب الظاهر أو وفق ما هو متوفر من معلومات أو معطيات من دون بلوغ الحق، فإن بوسع التربية هنا ممارسة دورها التقويمي، وذلك حين لا يقول الطرف المؤمن إلا الحقيقة كاملة من دون تزوير أو تدليس أو تشويه انطلاقا من الوعي المشبع بحقيقة أن الله تعالى ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) (غافر:19).
ولا شك أنه في ظل هذه التربية سينال القانون دعما، وستتميز أحكام القضاء بالتسديد على نحو قد لا نجد له مثيلا في ظل أي نظام آخر.
إن الإيمان بالقانون الأخروي، الذي لا يمكن التحايل عليه كفيل بأن يقوم أو يصحح الأخطاء القانونية أو القضائية.
ولعل هذا الملمح السلوكي، الذي يوفره الإيمان بالغيب لم يكن خافيا على النظم القضائية حين اعتمدت القسم بالرب، أو بالكتب المقدسة، كإجراء تلزم به الخصوم والشهود عند المنازعات، إدراكا منها لما يحتله المعتقد الديني من أهمية واحترام في نفوس كثير من الناس. لذا كانت الاستعانة بالقسم أملا في حسن سير التقاضي، ووسيلة لتسيير الإجراءات وكشف الخفايا وتحقيق الطمأنينة المطلوبة فيما يصدر من أحكام.
من جهة أخرى، قد لا تفلح التربية تماما حتى في ظل المجتمع الإسلامي من تحقيق التكيف أو الضبط أو تحقيق احترام الحقوق، هنا يأتي دور القانون بصيغه الآمرة أو الناهية ليسد النواقص أو الثغرات حتى بالنسبة لسلوكيات بعـض المؤمنـين ممـن لا يكـون بمنـأى عن الأخـطـاء أو التجـاوزات المحـدودة [ ص: 67 ] أو الجزئية. فالقانون بضوابطه وإجراءاته يمكنه أن يسد المنافذ ويحول دون انتشارها أو طغيانها.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أنه من الممكن تلمس التكاملية بين التربية والقانون من خلال متابعتنا لبعض التدابير، التي يقضي بها القضاء الحديث أحيانا، مثل "الإفراج بوعد الشرف"، و"الحرية المراقبة"، و"الحكم الشرطي"، و"الحكم مع إيقاف التنفيذ"، و"الإيداع" في مؤسسات الأحداث، أو منع ارتياد بعض الأماكن، ونحو ذلك مما نجد له متسعا وقبولا في إطار النظام القضائي الإسـلامي، ما دامت تمثـل هـذه الإجـراءات تدابير تربوية أو ترويضية أو تنطوي على مراعاة بعض الظروف الخاصة ببعض المحكومين أو تهدف إلى توفير إمكانية العلاج لبعض الحالات، فوقف التنفيذ مثلا يستهدف إثبات حسن السيرة ومساعدة المذنب على إصلاح نفسه والعودة إلى دائرة السواء [1] .. إنه عبر هذه الآليات يمكن تلمس بعض المضامين والدلالات التربوية المفيدة. وبوسع القـاضي المسـلم، وفقا لحسـابات إصـلاحية أو تربـوية، أن يأخـذ بهذا الإجراء أو ذاك مما أشرنا إليه، ليتكامل بالقانون عمل التربية وأهدافها.
ومن المفيد أن نعيد ما سبقت الإشارة إليه من أن الوظيفة التربوية يمكن أن تتوالد عن الجزاء القانوني، كما أن الوظيفة القانونية يمكن أن تتوالد عن العمل التربوي، فيتكامل بذلك عمل القانون مع عمل التربية، كما يتكامل عمل التربية مع عمل القانون، فيصب جهد الاثنين في النهاية، وفي ظل علاقتهما العضوية، في ما يحقق الأهداف المشتركة لكليهما. [ ص: 68 ]