خامسا: في الحقل الدولي:
أ- الأحكام الدولية:
القانون الدولي هو مجموعة القواعد، التي تعين حقوق الدول وواجباتها، وتنظم علاقات بعضها ببعض في السلم والحرب والحياد. والقانون الدولي الإسلامي في تنظيمه لعلاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى يعتمد على قواعد أساسية، في مقدمتها:
1- السلم أصل في العلاقات مع (الآخر):
حين يكون السلام هو المبدأ الحاكم في علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول، فإن ذلك يعني أن الحرب تمثل حالة استثنائية، كأن تكون ردا على عدوان: ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (البقرة:194)، أو استجابة لنداء المظلومين من المستضعفين: ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ) (النساء:75). [ ص: 149 ]
والاستجابة في الحالة الثانية ليست بدوافع مادية أو قومية، بل منعا لعدوان أو ردا لظلم، مع شرط أن لا يكون بين الدولة الإسلامية والدولة الأخـرى ميثـاق، فضـلا عـن تـوفـر الاستطاعة في تنفيذ ذلك الاستنقاذ.
وإذا كانت الدعـوة إلى الإسـلام ونشره على الصعيد العـالمي مطـلوبة، إلا أن ذلك لا يعني أن تتم بالقهر أو العدوان، بل بالسبل السليمة.
2- احترام المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية:
إن ما توقع عـليه الـدولـة الإسلامية أو تلتزم به من مواثيق أو معاهدات أو اتفاقيات ثنائية أو جماعية يصبح موضعا للتقيد به وعدم الخروج عليه واحترامه: ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ) (التوبة:4).
وفي التجربة النبوية نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد صلح الحديبية مع مشركي مكة (6هـ)، كما عقد معاهدات أخرى مع اليهود والنصارى، سواء في الجزيرة العربية أو في حدود الدولة الإسلامية في المدينة.
3- في حالة الحرب، يحرم الاعتداء على المدنيين، رجالا ونساء وأطفالا ورجـال ديـن: ( لا تغـدروا، ولا تغلوا، ولا تـمثلوا، ولا تقتلوا الولـدان، ولا أصـحاب الصوامع ) [ ص: 150 ] [1] ، فـضـلا عـن حرمـة إتـلاف الثـروات الـزراعيـة أو الحيوانية أو المنشآت المعمارية أو تسميم المياه أو حرق المسـاكن أو قطع الأشجار، وما إلى ذلك مما يدخل تحت مسـمى سـياسة الأرض المحروقة.
ومن قوانين الحرب الحفاظ على الأسـرى وعـدم قتـلهم أو التنـكيل بهم: ( فإما منا بعد وإما فداء ) (محمد:4)، بل وجوب التعامل معهم بالبر والإحسـان.
4- في حالات العدوان الموجه للمجتمع الإسلامي أو لكيانه السياسي، لابد من الدفاع ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة:190).
أما الجهاد والحرب الاستباقية فلا يمكن اللجوء إليها في ظل القوانين الدولية الجديدة إلا في حالات الخوف من الغدر أو الخيانة أو عند نقض العهد أو الميثـاق وكون المصـلحة والإمكـانية في كل هذه الحالات متوافرة للقيام بذلك: ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) (الأنفال:58)، مع ضـرورة إشـعار الطـرف الآخـر بنية إلغاء [ ص: 151 ] ما سـبـق التعاهـد عليـه- إن كان هناك عهـد - مع الإعـلام بأسـباب ذلك الإلغاء [2] .
5- اعتماد مبدأ التعاون الدولي والمساهمة بالمشترك الإنساني بما يخدم المسلمين وغيرهم، وذلك على مختلف الصعد والمجالات التجارية والاقتصادية والعلمية والتربوية وحتى السياسية، وذلك على وفق مبدأ: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2).
والتعاون مع (الآخر) لا يمكن أن يتحقق مالم يكن مسبوقا بتعارف: ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13).
والحقيقة أنه في هذا العصر لابد من إعادة النظر في توصيف (الآخر) غير المحارب والتعامل معه بناء على العهود والمواثيق السلمية وليس على أساس اجتهاد ثنائية دار الإسلام ودار الحرب طالما لم تكن هناك حرب قائمة معه. وبناء على هذا فداره دار عهد أو ميثاق سواء كان العهد أو الميثاق جار على نحو ثنائي أو في إطار ميثاق الأمم المتحدة.
وتظـل فـكرة التعاون مع (الآخـر) مفتوحة على مصـراعيها، لاسـيما في ما يتصل بمصالح البشرية وقضاياها الحيوية كقضية السلام ومكافحة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والأمراض والأوبئة والتلوث البيئي ونزع أسلحة الدمار [ ص: 152 ] الشامل وحقوق الإنسان ونهب ممتلكات الشعوب وتهريب الآثار ونحو ذلك من القضايا، التي تستدعي الاهتمام والتعاون المشترك.
ولا مندوحة من أن يمارس المسلمون تعاونهم مع (الآخر) على الصعيد العسكري، إذا ما اقتضت مصلحتهم ذلك، وكان في ذلك خدمة لأمنهم العام أو فيه ما يحفظ بلدانهم من أذى محتمل.
6- واجب الحضور العالمي وممارسة الدعوة: إذا كان الحضور في الإطار العالمي مقبولا في ظل القوانين والسياسات العالمية، فهو واجب في المنظور الإسلامي، ويفرضه مطلب الشهادة على العصر: ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143).
وحضور المسلم في مختلف دوائر الحضور العالمية وعلى مختلف الصعد قد يكون واجبا "عينيا" وقد يكون واجبا "كفائيا"، وهو ما تستدعيه طبيعة الرسـالة الإسـلامية بمـا تحمـله من نزعة دعوية إنسانية يمكن ممارستها في ظل ما هو مسموح به، وهو يتطلب التأهل بشروط العصر حتى تؤدى وظيفة الحضور على الوجه السليم والمثمر.
7- في إطـار القـانون الـدولي العـام والخـاص، على المسـلم وهـو مقيـم أو مسافر في مجتمعات غير المسلمين أن يحترم ما هو مقرر لدى الدول الأجنبية من قوانين وتعليمات وضوابط وذلك منذ لحظة دخوله وفي أثناء إقامته. وهذا ما عالجه بعض العلماء المعاصرين تحت عنوان "فقه الاغتراب". وقد اعتبر بعضهم سمة الدخول "الفيزا" بمثابة "عهد" يترتب بموجبه الإيفاء [ ص: 153 ] بما يرد فيه من إلزامات مقبولة، لذلك لا تجوز السرقة من أموالهم الخاصة والعامة وكذا إتلافها، لحرمة ذلك شرعا، ولأن ذلك يعد غدرا ونقضا للأمان الضمني المعطى لهم حين طلب رخصة الدخول في بلادهم أو طلب رخصة للإقامة فيها لحرمة الغدر ونقض الأمان بالنسبة إلى كل أحد [3] .
ب- التربية الإسلامية الدولية [4] :
التربية الدولية مصطلـح حـديث في حقـل الدراسـات الإنسـانية لم يبرز إلا بعد إنشاء الأمم المتحدة، واتجاه اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية إلى الدعوة إلى استثمار التربية النظامية وغير النظامية من أجل إعداد إنسان أكثر قدرة على تقبل (الآخر) وتفهم الثقافات المختلفة وترجمة ذلك عبر السياسات والمناهج التعليمية [5] .
وتشير دائرة المعارف التربوية إلى أن من دعائم التربية الدولية الدراسة الموضوعية للثقافات الأخرى عبر مناهج المواد الاجتماعية والتربية الوطنية وغيرها بما يرسخ لدى التلاميذ في جميع المراحل الفهم الأفضل للثقافات وقضـايا الخـلاف، مع تبادل الأساتذة والطلاب والباحثين بين البلدان [ ص: 154 ] المختـلفـة، فضـلا عن توفـير فرص التعـاون والمسـاعـدات الفنية والتنموية [6] فيما بين تلك البلدان.
- المقومات الأساسية للتربية الإسلامية الدولية:
- مدركات أساسية:
ثمة مدركات لابد أن تثقف بها التربية الإسلامية لتكون منطلقات أساسية لتأصيل النظرة نحو (الآخر)، من أهمها:
- وحدة النوع الإنساني:
أوضـح الإسـلام بجلاء وحدة الأصـل بين الناس، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الناس بنو آدم, وآدم من تراب ) [7] . والقرآن يوجه خطابه "للإنسان"، و"الناس"، و"بني آدم" تأكيدا للمعنى المشار إليه. وبناء على ذلك لابد من تكريس نظرة التساوي وإعلاء قيمة التكريم: ( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70)، ومن ثم الحث على التعامل مع (الآخر) انطلاقا من ذلك.
- ظاهرة الاختلاف:
الاختلاف ظاهرة يزخر بها الكون وتحفل بها مفردات التكوين, وتكتسب شرعيتها بوصفها سنة من سنن الوجود: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك .. ) (هود:118-119). [ ص: 155 ]
من هنا فإن حرية الاعتقاد والاختلاف مكفولة: ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف:29)، وليس على المتدين بالإسلام غير الاعتراف بـ(الآخر) وقبول التعايش معه على ما هو عليه: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ) (الحج:17).
- نسبية الحقيقة:
نظرا لتناهي الأحكام القطعية في الإسـلام واتسـاع مسـاحة المتغيرات، التي لا تتناهى والتي تتطلب الاجتهاد والذي يبقى ظنيا، فضلا عن اتساع مجالات الشأن الدنيوي، تبرز أهمية إعمال "العقل" وتوفير "الخبرة" واستيعاب "العلم التجريبي" والتجارب الاجتماعية في تحديد الحقيقة، التي تتطلب الاجتهاد الجماعي وتوفر الاختصاصات المتعددة وتتوزع بالضرورة على أكثر من جهة، فقد نصيب في جوانب ونخطئ في أخرى، وقد يصيب غيرنا في جوانب ويخطئ في غيرها، وهذا يعني أن من الغرور أن يقول أحدنا: إن الحقيقة معه كاملة، الأمر الذي ينبهنا إلى ضرورة التواضع والتماس العذر لـ(الآخر)، وأن نقر بنسبية الحقيقة في العديد من الأفكار والنظريات والسلوكيات، التي لم يرد بشأنها حكم أو توجيه قطعي.
- قواعد التعامل مع (الآخر) في المنظور الإسلامي:
استنادا إلى الرؤية الإسلامية في تحديد ماهية (الآخر) تبرز مجموعة من القواعد، التي تحكم علاقة المسلم بغيره، في مقدمتها: [ ص: 156 ]
- مبدأ التعايش السلمي:
الأصل في علاقة المسلمين مع غيرهم السلم، ولم تشرع الحرب إلا كحالة دفاعية أو ضرورة تقتضيها بعض المواقف: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8).
حتى الحرب المشروعة تظل في تصويرها القرآني مكروهة: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) (البقرة:216)، ومن ثم فهي لا تشن إلا للضـرورة، الـتي ليس من ضمنـها إشباـع هـاجس القوة أو حب التحكم أو رغبـة الاستـحواذ، بل هـي في هـذه الاتجـاهات محـرمة عـلى الإطلاق ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة:190).
وحتى في حالة نشوب الحرب يبقى الجنوح للسلم هو المفضل في الإسلام: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) (الأنفال:61).
وكل ذلك يؤكد أن الأصل هو السلام والتعايش، وأن الحرب حالة دفاعية إلا في حالات استثنائية [8] تخضع كل واحدة منها إلى طبيعة كل عصر وظروف كل حالة.
وهذا ما تعتمده التربية الإسلامية. [ ص: 157 ]
- معرفة (الآخر) والاعتراف به:
حين يتوزع الناس بين شعوب وقبائل يظل المقصد هو التعارف: ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13). وفي ظل مسلمات وحـدة الخـلق وحقيـقـة الاختـلاف ونسبية الحقيـقـة ينـتج التعارف اعترافا، فيما يظل الحال- في ظل سيكولوجية تختزن منطق التفاضل والاستعلاء- عصيا على التعارف، ناهيك عن الاعتراف.
ومـن هنـا فـإن مسـؤولية الـتربية أن تعيـد تثقيـف المسـلمـين وتصويب مـا قـد يفـهم خطأ من قوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) (آل عمران :110) على غير معناها الكامل والصحيح، حيث لا تمنح الخيرية وفقا لأساس عرقي أو تحيز إلهي- حاشا لله- وإنما هي نتيجة قيام الأمة بمسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو منصوص عليه في ذيل الآية المتقدمة.
صحيح أن الإسلام خطاب عالمي إنساني، لكنه لا يمارس دعوته ورسالته إلا على أسـاس الحـرية وعـدم الإكراه، ويتحـاشى منهجية الاستلاب الذهني أو السيـطرة السحرية، وفي هـذا نـفـي لمـقـولـة التـعـارض، الـتي يتـوهمها البعـض كالأنثروبولوجي الفرنسـي "ليفي ستراوس" حين يتساءل عن الكيفيـة، التي سيوفق فيها المسلمون بين ظاهرة التعددية وفكرة [ ص: 158 ] العالمية [9] ، وكأنه لا يدرك بأن العالمية في منظورها الإسلامي لا تعني عولمة "Globalization" الآخرين.
- التفاهم مع (الآخر):
إن البـدء بمعرفـة (الآخر) يمثـل مدخـلا طيبا للتواصل ثم التفاهم، الذي لا يمـكن نسجـه في ظـل الجهـل أو سيـاسـات التجـاهل، وهذا لا يتحقق إلا بالحوار، الذي لا يتم إلا بتوافر شروط الفهم وهي:
1- التعرف على حقيقة (الآخر).
2- الإقلاع عن تجاهل (الآخر).
3- التخلي عن الصور النمطية وتعمد التشويه.
4- الكف عن التأويل المشتط وترك (الآخر) يوضح نفسه بنفسه.
5- اعتماد المنظور الكلي عند تحديد (الآخر).
كما لابد من تجاوز معوقات التفاهم، التي يمكن إجمالها بما يأتي:
1- نزعة الاستكبار وسياسات القهر والعدوان.
2- التمسك بالمكتسبات غير المشروعة.
3- رفض التعددية وعدم احترام خصوصيات (الغير).
4- التعصب وسيطرة جراح الماضي. [ ص: 159 ]
وبتجـاوز هـذه المعـوقـات يمكن الوصـول إلى إرسـاء مقومات للتعـايش، في مقدمتها:
1- إدراك الوحدة الإنسانية.
2- قبول الاختلاف.
3- التدافع والتنافس السلمي بين الحضارات.
4- تجنب جرح (الآخر) واستفزازه.
- الاتصال الإسلامي الخارجي ومقوماته التربوية:
هناك جملة من القيم والمبادئ والأفكار التربوية، التي تؤسس للسلوك الاتصالي، من أهمها:
1- تقوية النزعة الأمميـة وتأكيـد الشـعور بمسؤولية الإنقاذ والشهادة على العصر:
اهتمت التربية الغربية بقيم القوة والتفوق والسيادة كآليات للاتصال منذ أن ظهرت حركة الكشوفات الجغرافية والاستشراق والتبشير والحركة الاستعمارية. وكانت هذه التربية تعلم الإنسان الغربي أن الهيمنة قيمة تفرضها مسؤوليات المركز "المتقدم" وضرورة تفرضها وظيفة "التحضير" لاسيما مع (آخر) لا يضر معه- بنظر الغرب- الشكل الاستعماري أو فعل الاستحواذ.
أما التربية الإسلامية النموذجية فهي ترفض هذا المنظور وتؤكد أن المتصل به حـتى إن كان متخـلفا لا يصـح التعامل معه على أسـاس القـهر والازدراء، [ ص: 160 ] بل أن الإنقاذ هو المبدأ، الذي يحكم العلاقة معه، فقيم الحب والتسامح والمشاعر الإنسانية الطيبة هي التي تؤسس تربويا لحركة إنقاذ مطهرة من أية نوازع استكبارية أو تحقيرية.
والإعـداد لمتـصـل محرر أو محضر لا يتـم انطـلاقا مـن إثـارة غرائز السيـطرة أو تحـريك دوافـع النهب واغتنام الفرص، بل يتم عبر تقوية نوازع الخير وروح التعاطف الإنساني: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107). فالحضور في الساحة الدولية من باب تقديم المساعدات المالية أو العينية أو المشاركة في أعمال الإغاثة أو التطبيب أو محو الأمية أو نحو ذلك هو عمل إنقاذي لا ينتظر صاحبه من أحد جزاء أو شكورا. وإذا ما تمخض الإنقاذ عن مكاسب فهذه ليست شرطا له، وتلك فكرة جوهرية في تربية المتصل، وشعور لابد أن يغرس في ذهنية جماعة الاتصال الإسلامي.
وأخيرا، فإن التربية على ممارسة الإنقاذ من شأنها أن تنمي روح المبادرة التي تدعم العمل الإنساني وتقوي الصلات بين مختلف الجماعات والشعوب: ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143).
2- قيمة التعاون:
يحتل التعاون، الذي يقوم على النفع والخير مكانة رفيعة في سلم القيم الإسلامية، فخير الناس من نفع الناس: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2).
وبهـذا المعـنى تـهتم التـربية الإسـلامية بالحـث عـلى التعاون بوصفه قيمة لا تحكمها بالضرورة المكاسب الذاتية، إلا أنه لا يمنع من أن يكون التعاون [ ص: 161 ] مرتبطا ببعض الاعتبارات النفعية إذا كان مبنيا على قاعدة التبادل، التي هي سنة من سنن الحياة: ( ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) (الزخرف:32). ولهـذا يمـكن أن يشمل التعاون الكثير من المجالات العلمية والاقتصادية والـدولـيـة شـريـطـة أن لا يـكـون في ذلك مـا يخـالـف الـقـواعـد الشرعـيـة أو المصالح العليا.
وقد يأخذ التعاون أشكال المساعدة وتقديم العون لـ(الآخر) من دون مقابل بناء على مبدأ: ( خير الناس من نفع الناس ) [10] ، وفي هذا تأكيد على النزعة الإنسانية وروح التضامن، اللتين تغرسهما التربية الإسلامية في شخصية الإنسان المسلم.
3- القدوة العالمية:
المتصل الذي تتجسد في شخصيته قيم الصدق والتجرد والصبر والتواضع والتسامح، وينسجم عنده العمل مع القول، سيكون محلا لاهتمام (الآخر) وتقديره، بخلاف المتصل مزدوج الشخصية.
ومفهوم القـدوة لا يتـحـقـق في متـصـل يتـخـذ مـن الـكذب أو الخداع أو التضليل أو التزييف أساليبا في الاتصال.
ويتجسد مفهوم القدوة باحترام العهود والمواثيق، حيث إن سلوكا كهذا من شأنه أن يقدم صورة إيجابية عن الإنسان المسلم في العالم. [ ص: 162 ]
والـتـربية الإسـلامية إذ ترسخ هذا الفهم العالي للقدوة تحث على الانخـراط في الانشغالات العالمية المشتركة بمناقبية جديرة بأن تشع معطياتها على عالم الآخرين.
4- الوعي بالوظيفة الحضارية:
إذا كان الحضور في مختلف دوائر الحضور العالمية مطلوب لتحقيق مطلب الشهادة ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) وبما ينقل رسالة الخير إلى العالم، فإن وظيفة التربية الإسلامية أن تقوي هذا الاستعداد وتنميه بوصفه واجبا "عينيا" أو "كفائيا".
ولا شك في أن التوعية بهذه الوظيفة يستلزم تكييف منطق الاتصال في ضوء متغيرات البيئة الدولية، التي تتطلب التحرك بحدود الحرية المتاحة والمقررة دوليا، مع ضرورة إعادة النظر في تصنيف الآخرين وفقا لرؤية واقعية تراعي المتغيرات، التي طرأت على الخارطة الجغرافية والسياسية للمنطقة والعالم.
ولا تقف التربية عند هذه المقومات والشروط القيمية، بل ثمة شروط علـميـة وفـنية لابد من تـوافرها في العمـل الاتصـالي سـواء بالنسبـة للمـتـصل أو بالنسبة للمحتوى الاتصالي أو وسائله أو بالنسبة للمخاطب الذي يتوجه إليه الاتصال.
وتلك أمور لابد من إعداد المتصل وتدريبه عليها. [ ص: 163 ]
تعليق:
حين يكون المسلمون في كيان سياسي يعتمد القانون الدولي الإسلامي في صيغتـه المتجـددة فـلاشـك في أن التربية على تجاوز ثنائية دار الإسلام ودار الحرب واعتماد بديلا عنها ثلاثية دار الإسلام ودار العهد ودار الحرب ستـساعد المسلمين على التعامل الجديد مع العالم على النحو، الذي لم يعد فيه (الآخر) محـكوما بالحرب بالضـرورة طـالمـا هنـاك علاقات سلمية مباشرة أو ضمنية تربط الطرفين.
والـتـربية الدولية في المجتمع المسلم القائمة على المدركات والقيم والاتجـاهات الإسـلامية المـؤسـسـة للعـلاقـة مع (الآخر) ستساعد على التطبيـع الاجتـماعي والسياسي وفقا لتلكم المدركات والقيم والاتجاهات، فضـلا عن تأهيـل القيادات العامة في الداخل وضمن السفارات في الخارج وفقا لذلك.
لقد شهد تاريخ الدولة الإسلامية، سواء في عصر النبوة أو في بعض الحـكومات الإسـلامية تطبيقـات لبعـض تلك القيـم والمعايير وما يؤسس عليهـا مـن أحـكام. ويمـكنـنا الإشـارة هنـا إلى قصـة القـائـد العسـكري قتيبة بن مسلم الباهلي حين تقدم بجيشه نحو صفد (من أعمال سمر قند) دون أن يتبع مع أهلها الشروط والضوابط الإسلامية المعتمدة، الأمر الذي دفع السكان إلى تقديم شكوى إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين آلت إليه [ ص: 164 ] الخـلافة والذي عرضـهـا بـدوره على القـاضي، الذي نـظر في الموضـوع وأصـدر حـكمه بلزوم خـروج الجيـش الإسـلامي ومـن جـاء معه من سمر قند إحقـاقـا للحـق والـتـزاما بالحـكم الشـرعي، وقـد صـدق ابن عبـد العـزيـز على الحـكم وأمر بتنفيـذه على الرغم من أن ذلك كان يشـكل خسـارة للـدولة الإسـلامية [11] .
والحقيقة إذا وقفنا على سلوكيات الدول المعاصرة لاسيما الكبرى منها لرأينا أنها في كثير من الأحيان لا تتورع عن مخالفة أحكام القانون الدولي في علاقاتها مع الدول الأخرى، من أجل مصالحها الاستراتيجية أو السياسية. وتعد أعمال التجسس والأنشطة غير المشروعة، التي تجري فيما بينها، سواء عبر الأفراد أو المؤسسات أو السفارات خير مثال على ذلك. ولعل هذا الاستهتار راجع إلى أن الحقوق الدولية وفقا للقانون الدولي كثيرا ما تفتقر إلى المؤيدات "Sanctions" فوق القانونية.
واليوم نتساءل: هل يمكن أن يحدث مثل هذا في ظل دولة إسلامية معاصرة تعلن التزامها بأحكام القانون الدولي الإسلامي؟
إن التربية على مبادئ التعايش واحترام الحقوق والالتزام بالعهود والمواثيق ومراعاة العلاقات الدولية من شأنها أن تميز الدولة الإسلامية عن غيرها من [ ص: 165 ] الدول أو الكيانات في هذا الخصوص، بخاصة إذا ما كان القادة ممن تشبعوا بمبدأ التوفيق بين السياسة والأخلاق وكانوا من المؤمنين بوحدة القيم، لاسيما إذا لم تكن ثمة مبررات أو ضرورات تدفع إلى التعامل مع الآخرين بالمثل على نحو سلبي.
إن تثقيـف المسـلمين، قادة وشعوبا، على مدركات وحدة النوع وفكرة الاختـلاف ونسبيـة الحقيـقة واحـترام الحـقوق وأصالة السلام، يمكن أن يؤهـلهم لتبني مبـادئ التـعايـش والتـعـارف والتـفـاهـم وتنقيـة الـذهن من الميول الاستكبارية وتجنب الرؤية المركزية، التي تتعامل مع الآخرين بمنطق الاستعلاء والتهميش.
إن التربية الثقافية وفقا لهذه المدركات والمبادئ وما ينبثق عنها من أحكام ستعظم من اتجاهات السلم واحترام الحقوق وتجنب سلوكيات التجاوز والعدوان ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص:83).
كما إن التربية على ذلك من شأنها أن تفرز واقعا اتصاليا إيجابيا قوامه التفاهم والتعاون والحوار بين الثقافات والدول والشعوب، بعيدا عن منطق الصراع والعدوان.
وبهذا تترابط العلاقة بين التربية والقانون على نحو يعطي للأحكام الدولية مؤيداتها الداخلية قبل أية مؤيدات خارجية. [ ص: 166 ]