المبحث الثاني
مقاصد التلقي
1- التزكية والتدبر:
من أهم مقاصد تلقي القصص القرآني التزكية والتدبر. ويشتركان كلاهما في تربية النفس على الطاعات، وتنزيل الأحكام والقيم على الواقع المعيش.
أ- التزكية:
أصل التزكية في اللغة من زكا يزكو، وتجمع بين أربعة معان:
- معنى النماء والزيادة، يقال زكا الزرع أي نما وزاد.
- ومعنى التطهر، ومنه قوله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103) أي تنمو وتتطهر بها، وقوله: ( وما يدريك لعله يزكى ) (عبس:3)، أي يتطهر من الشرك والذنوب.. والزكاة زكاة المال، وهو تطهيره، والفعل منه زكى يزكي تزكية إذا أدى عن ماله زكاته، و"الزكاة ما أخرجته من مالك لتطهيره به، وقوله: ( وتزكيهم بها ) قالوا: تطهرهم بها" [1] . [ ص: 55 ]
- ومعنى الصلاح، يقال رجل زكي أي صالح، ومنه قوله تعالى: ( خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) (الكهف:81)، أي عملا صالحا، قال الفراء: زكاة أي صلاحا، قال أبو زيد النحوي في قوله عز وجل: ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ) أي يصلح [2] .
وقد جمعت الزكاة هذه المدلولات الثلاثة؛ "وقيل لما يخرج من المال للمسلمين من حقوقهم زكاة؛ لأنه تطهير للمال وتثمير له، و إصلاح، ونماء".
- ومعنى المدح، يقال زكاه الله وزكى نفسه تزكية إذا مدحها وأثنى عليها، يقول تعالى: ( فلا تزكوا أنفسكم ) (النجم:32)، أي لا تمدحوها.
وقد اعتبر عدد من العلماء والباحثين أن التزكية ضرب من ضروب التربية، يستهدف تنمية الغرائز والملكات والقدرات الصالحة في المتلقين لها، وتنقيتهم وتطهيرهم من خبائث الاعتقادات والأخلاق والعادات والأعمال والأقوال، حتى تكون الأمة قوية نافذة في أمورها، متحررة من جميع الانحرافات، التي تزيغ بها عن الطريق [3] .
وإذا تقصينا ورود لفظها في القرآن الكريم، نجد أنها مقصد مهم من مقاصد الوحي، يقول تعالى: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا [ ص: 56 ] وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) (البقرة: 128-129)، فقد اقترن دعاء إبراهيم، عليه السلام، لربه سبحانه، بأن يجعل من ذريته ( أمة مسلمة ) وأن يبعث في هذه الأمة ( رسولا منهم ) لتحقيق الهدف من تلقي الوحي، وهو تبليغهم رسالة الله وتعليمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، أي يرتقي بهم نحو درجات النماء والتطهر والصلاح ومستويات التكريم الإلهي.
وقد استجاب سبحانه لنبيه إبراهيم ، عليه السلام، فقال: ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164). وقال في آية أخرى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2).
وإذا كانت الآيات السابقة تقدم معالم لكيفية تلقي الأمة للوحي وهي: تلاوة القرآن وتحقيق فاعلية القراءة، والانفتاح على ما فيه من علم وهدى وحكمة، وتزكية النفس بالبناء والتطهر والتربية المستمرة، فإن هناك آيات قدمت مادة قصصية، تركز على تحقيق تزكية الفرد، بتربيته وبناء شخصيته، وترقية وجدانه، من ذلك قوله تعالى في سورة عبس: ( عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى ) ، يعاتب الله عز وجـل في هذه الآيات نبيه الكريـم لما عبس في وجه رجل مؤمن يريد أن يستزيد منه ويتعلم. [ ص: 57 ]
وقد افتتح تعالى سرده "بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام" وفي ذلك "تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم" [4] ، وأنه يشير إلى إمكانية تحقيق تزكية الفرد بدخوله إلى دائرة الإيمان، فقد يكون تزكي الرجل مرجوا، إذا أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإرشاد، وزاد الإيمان رسوخا في نفسه، وفعل خيرات كثيرة مما يرشده إليها، ويزيد تزكيه، فالمراد بـ (يتزكى): تزكية زائدة على تزكية الإيمان بالتحلي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديه عليه[5] ، لتعود التزكية على النفس ذاتها ( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ) (فاطر:18).
كما أن قصة ثمود، جاءت في سياق أطول قسم في القرآن الكريم يتعلق بتزكية النفس، وذلك في سورة الشمس، يهدد فيها الله عز وجل المشركين، الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم طغيانا، كما كذبت ثمود رسولها طغيانا وكفرا، وذلك في قوله تعالى: ( والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها * كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها ) (الشمس:1-15)، [ ص: 58 ] كمـا يذكر بفـلاح مـن زكى نفسـه واتبـع ما ألهمـه الله من التقـوى، وبخيبـة من اختـار الفجـور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين، بالإدراك والإرشاد الإلهي [6] .
ونلاحـظ قبل تقديم القصة قسمه تعالى بعديد من مخلوقاته، من الأشياء والأحداث والظواهر، حيث أقسم بنفسه على شيء عظيم، وجاء جواب القـسـم ( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) . أي لا يفلـح إلا من تحقق بالتزكية، وهي البعد عما يغضب الله من الذنوب والآثام، والارتقاء بالنفس في مدارج العبادات والطاعات والأعمال الصالحة. وفي المقابل يخسـر من حـال بينـه وبين نفسـه من فعـل الصالحات، وحرمها من الخيرات الربانية.
والقصة القرآنية بمجملها تركز على التزكية والسمو بالأخلاق وتقويم السلوك وإصلاح النفوس، من خلال تعليم فضائل الأخلاق, والقدوة الحسنة، كقصة يوسف، عليه السلام، في صبره وعفته وتسامحه، وقصة أيوب، عليه السلام، في صبره، وغير ذلك. والنهي عن الفواحش والأخلاق الذميمة، كتصوير شناعة ما كان عليه قوم لوط، عليه السلام، وما كان عليه أهل مدين، وغيرهم. [ ص: 59 ]
ب- التدبر:
إن تزكية النفس لن تتحقق إلا إذا اقترنت بالتدبر، وحرر الإنسان قلبه من الأمراض، التي تصيبه. وهذا ما يوجه إليه القرآن الكريم حين يذكر أن القلب، الذي هو موطن القدرات العقلية يعي ويغفل، ويطمئن وينكر، ويؤمن ويكفر. والتدبر مأخوذ من دبر وهو آخر الشيء. ودبر وتدبره: نظر في عاقبته، وعرف الأمر تدبرا أي بآخره، وفلان ما يدري قبال الأمر من دباره، أي أوله من آخره. ويقـال: إن فـلانا لو استـقبـل من أمره ما استدبر لهدي لوجهة أمره، أي لو علم في بدء أمره ما علمه في آخره لاسترشد لأمره. والتدبر: أن يتدبر الرجل أمره ويدبره أي ينظر في عواقبه [7] . وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه في العواقب [8] .
وقد ورد فعل التدبر في القرآن الكريم بمعنى التأمل في معاني القرآن وآياته، والتفكر والتبصر بما فيه لمعرفة التأويلات الصحيحة والدلالات المستنبطة [9] ، وجاء في كل الآيات بصيغة المضارع، "فلا يمكن تصور فعل التدبر إلا في سياق الفعل المتواصل" [10] . [ ص: 60 ]
ففي قوله تعالى: ( أفلا يتدبرون القرآن ) (النساء:82)، و ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد:24) جاء مسندا إلى الجمع المذكر السالم، وفي قوله تعالى: ( أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) (المؤمنون:68)، و ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) (ص:29)، جاء مجزوما بأداة الجزم.
واستنادا إلى معناه في القرآن الكريم نجد أنه لا يقتصر على التأمل والتفكر، مع أنهما سلوكان مطلوبان بداية، وإنما "يتعين ممارسة التدبر عبر الالتفات إلى مآله وعاقبته، إذ لا يتعلق الأمر مع القرآن بمجرد التفكر والتأمل، بل إنهما يعتبران وسيلة إلى غاية كبرى، وهي التذكر والعظة والاعتبار والاستجابة لنداء الله" [11] .
وقد جعل الله تعالى القرآن ميسرا، بحيث لا يحتاج إلى وسائط بينه وبين متلقيه من حيث التفاعل الوجداني والعقلي. فعلى الرغم من أن استنباط الأحكام النظرية والعملية، واستخلاص المفاهيم والتصورات، والمبادئ والقيم يحتاج إلى علماء لهم شروط معينة في الفهم والتأويل، إلا أن كل إنسان يمكن أن يضع القرآن الكريم موضع تدبر وتفكر وتأمل.
فالتدبر هو ذلك الفهم والتعايش مع كل الأفكار والصور والأحكام والقيم الموجودة فيه، وهو الوسيلة الفعالة، التي تمكن من استخلاص الجهاز المفاهيمي والقيمي، الذي يصوغ مقومات الذات، ويثبت الهوية، ويرتقي بالشخصية، ويقيم الحضارة . [ ص: 61 ]
ولما كانت القصص القرآني جزءا من القرآن الكريم، فإنها في تقديمها للنماذج البشرية من الأمم السابقة، ورسمها لأحوالهم ومواقفهم، تهدف أيضا إلى تدبرها، من أجل أن "يتجنب المسلمون الوقوع في شرك الأسباب، التي تسوق إلى أخطاء تلك الأمـم. وإذا أخـذنا قصة موسى مع فرعون مثلا فإننا نجدها، كما يقول الشيخ رضا، ذكرت في القرآن 120 مرة، ولم يكن ذكرها للتسلية، وإنما ذكرت حتى لا يتحول الخلفاء إلى فراعنة، وحتى تعرف الشعوب أيضا أن عبادة غير الله جريمة، وأن الرضى بالذل ستكون عقباه الهوان في الدنيا وفي الآخرة" [12] .
ومن أبرز ما يمـكن أن يتدبره المتلقي من القصص القرآني مثلا تقويم الخلق والسلوك، الفردي والجماعي، ففي قصة الجنتين نجد نوعين من أنواع السلوك البشري:
الأول هـو الظـالم لنفسه بالكبر والطغيان، الذي يقارن بين ما يملكه هو وما يملك غيره، فيجد أن ما عنده عظيم ويحتقر ما عند غيره، لينعكس ذلك في فعله وقوله، يقول تعالى: ( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) (الكهف:32-36). [ ص: 62 ]
وقد استخدم الله عز وجل، أسلوب المزاوجة بين الوصف والسرد والحوار، الأمر الذي يثير المتلقي، ويستحوذ على اهتمامه.
وفي المقابل، نجد شخصية أخرى قائمة على التضاد مع الشخصية الأولى، محورها الإيمان والاستسلام لله عز وجل، وجاءت الآيات مؤيدة ذلك من خلال الاستفهام الاستنكاري: ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا * ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا * وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا * ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ) (الكهف:37-44).
وفلسفة الإيمان لدى الشخصية الثانية متكئة على الثقة بالله وعدم الشرك به، وعلى رؤية إيمانية ينقلها للكافر، فلو تحول منهجه الدنيوي إلى منهج عقدي سليم، لا يرى في الدنيا مكسبا، وإنما معبرا، فإن معيار النظر إلى متاع الدنيا يختلف.
ومن أبرز الأمثلة، التي تبرز مقصد التدبر والتزكية، أنموذج طلب العلم في قصة موسى، عليه السلام، والرجل الصالح، فموسى، عليه السلام، في سورة الكهف، يخرج في رحلة من أجل طلب العلم: ( وإذ قال موسى لفتاه [ ص: 63 ] لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) (60)، وبعد سلسلة من الأحداث يلتقي موسى، عليه السلام، مع العبد الصالح: ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) (65)، ويطلب أن يرافقه ليتعلم منه: ( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ) (66)، لكن العبد الصالح يشترط عليه شروطا: ( قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ) (67-70).
وهنـا يمـكن أن نتـدبر مجموعـة من الأشياء، منها الصبر على التعلم، مع تعليقـه بالمشيئـة، والامتثال والطاعة للمعلم، وعدم التعجل في السؤال حتى ينتهي المعلم. وتمضي القصة في تسلسل محكم تروي الأحداث، التي وقعت في تلك الرحلة، تعلم المتلقي الحرص على العلم في كل مراحل الحياة، فمهما وصل الإنسان إلى درجات العلم والمعرفة، عليه أن يستزيد منهما.
والأمثلة كثيرة ومتنوعة من القصص القرآني، التي نستشف منها مقصد التزكية والتدبر، ولعـل تشخيـص عنـاصر الطبيعـة وظـواهرها، ومخاطبتها كأنها كائنات تحس وتعقل، تحقق هذا المقصد، خاصة حين يلمس تلك الصلة الروحية بين الإنسان والمخلوقات الطبيعية، التي تعد من عجائب الله تعالى، سواء كانت في الأرض أم في السماء، لأن مثل هذه الصور والصلات من شأنها أن تعمق وعي الإنسان بهذا الكون، وتقوده إلى التدبر والتأمل. [ ص: 64 ]