الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- مصطلح التلقي:

التلـقي في اللغـة: هو الاستقبال عمـوما [1] ، كما في قول الله تعالى: ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) (الأنبياء:103)، أي تستقبلهم، وفي هذا المعنى أيضا جاء قوله تعالى: ( إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ) (ق:17)، أي يستقبل الملكان ما يصدر عن الإنسان من أقوال فيسجلاها. وقد أشارت الآية الكريمة إلى دلالة التلقي بصيغته الفعلية في حركيتها الزمنية (الحاضر المستمر) وفي صيغته الاشتقاقية: ( يتلقى المتلقيان ) في ثبوتها ودوامها [ ص: 31 ] لتمنح صفة مكانية ثنائية للتلقي؛ من خلال كل سلوك وحركة إنسانية عبر اليمين والشمال.

وقد ورد لفظ التلقي في القرآن الكريم للدلالة على التعليم والتلقين والتوفيق، ومنه قوله تعالى: ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) (فصلت:25)، وقوله تعالى: ( إذ تلقونه بألسنتكم ) (النور:15)؛ أي يأخذ بعض عن بعض، و ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) (البقرة:37) معناها أنه أخذها عنه، ومنه لقنها وتلقنها [2] .

وأما تلقي القرآن: فهو استقبال القلب للوحي، إما على سبيل النبوءة، كمـا هـو الشـأن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم ، على نحو ما في قول الله تعالى: ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) (النمل:6)، إذ ألقى الله عليه القرآن بهذا المعنى، كما فسره الراغب الأصفهاني من قوله تعالى: ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5)، قـال، رحمـه الله: "إشارة إلى ما حمل من النبوة والوحي" [3] .

وإما أن يكون (تلقي القرآن) بمعنى: استقبال القلب للوحي، على سبيل الذكر [4] . وهو عام في كل مؤمن تلقى القرآن روحا من الله عز وجل بقلبه وعقله وجوارحه، مصداقا لقوله تعالى: ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [ ص: 32 ] ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) (الشورى:52).

وبهذا المعنى يكون التلقي من صميم المفهوم الرسالي للدعوة؛ لأنه بدون تلقي الوحي وضوابط هذا التلقي وشروطه لا يمكن تحقيق الرسالية وتطبيقها وتصديرها أيضا، "فالقارئ له ليس عنصرا مستهلكا، بل عنصر متفكر فيه، فكان لزاما أن يتحقق الفهم والإفهام للذات السامعة القارئة حسب مستوى الإدراك والوعي" [5] .

وتلـقـي الـقرآن بمعنى استـقبال القـلب للـوحي، عـلى سبـيـل الذكر؛ إنما يكون بتعامل العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا، فيتـدبره آية آية، باعتبار أنها تنـزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه، ومن هنا وصف الله تعالى العبد، الذي "يتلقى القرآن" بهذا المعنى؛ بأنه يلقي له السمع بشهود القلب، قال تعالى: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (ق:37) [6] .

وأن يتلقى الإنسان القرآن، معناه أن يصغي إلى الله يخاطبه، فيبصر حقائق الآيات وهي تتنـزل على قلبه روحا، وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التخلق بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حديث [ ص: 33 ] أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم ؛ فقالت: ( كان خلقه القرآن ) [7] .

ومعناه أيضا أن تتنـزل الآيات على موطن الحاجة من قلب الإنسان ووجدانه، كما يتنـزل الدواء على موطن الداء، فآدم، عليه السلام، لما أكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية؛ بسقوط لباس الجنة عن جسديهما، فظل آدم، عليه السلام، كئيبا حزينا، قال تعالى: ( فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ) (طه:121).

ولم يزل كذلك حتى (تلقى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاء، وذلك قوله تعالى: ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) (البقرة:37). فهو عليه السلام كان في حاجة شديدة إلى شـيء يفعـله أو يقولـه؛ ليتـوب إلى الله، لكنـه لا يدري كيـف؟ فأنزل الله عـليه - برحمته تعالى- كلمـات التـوبة؛ ليتـوب بـها هو وزوجه إلى الله تعالى. وهي - كما يقول المفسرون- قوله تعالى: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (الأعراف:23)، فبمجرد ما أن تنـزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ وكان آدم، عليه السلام، بهذا أول التوابين، وذلك أخذه كلمات التوبة على سبيل (التلقي) [8] . [ ص: 34 ]

فكان ذلك التلقي أول مدارج العروج إلى مقام "كلمات الله"، واتضح من خلال استعماله القرآني أنه وسيلة عملية للتفاعل الوجداني والعقلي مع القرآن، لخط سطور منظومة معرفية وسلوكية وجمالية تتحقق من خلالها أسس الرقي الإنساني، كما كان الشأن في عهد النبوة، وكما هو مطلوب في كل الأزمان، حين يعمل المتلقي على تلقي القرآن بوعي وإعمال للبصيرة والتفكر، بوصفه نظاما ومنهج حياة، يقوم على عقيدة التوحيد، التي تسمه بالتميز والتفرد.

وقد اهتم التراث العربي بجمالية التلقي، فجاءت مبثوثة في ثنايا اهتمامه بقضايا النص، خاصة تلقي القرآن الكريم والشعر، عقب حقب زمنية مختلفة، فترددت عند الجاحظ (ت 255هـ) وابن قتيبة (ت 276هـ) وعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) وغيرهم بألفاظ مرادفة كالسامع والمستمع والمخاطب والجمهور والمقام.

التالي السابق


الخدمات العلمية