الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بلاغة القص في القرآن الكريم وآفاق التلقي

الدكتور / سعاد الناصر

- مفهوم القص القرآني:

يـعبر معنى القص لغة عن تتبع الأثر وتقصيه، يقال: خرج فلان قصصا في أثر فلان، إذا اقتص أثره، وقيل القاص يقص القصص لاتباعه خبرا بعد خبر، وسوقه الكلام سوقا [1] . وقد ذهب المفسرون إلى هذا الأصل اللغوي، يقول الفخر الرازي: "القصص اتباع الخبر بعضا بعضا، وأصله في اللغة: المتـابعـة.. قـال تعـالى: ( وقالت لأخته قصيه ) ، أي اتبـعـي أثره.. وإنما سميت الحكاية قصة: لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا" [2] ، ويقول في تفسيره لقوله تعالى: ( إن هذا لهو القصص الحق ) (آل عمران:62): "والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى الحق، ويأمر بطلب النجاة" [3] .

أما في العصر الحاضر فإن لمصطلح القصة "ثلاثة مفاهيم تداولها منظرو القصص هي: [ ص: 26 ]

- أنها ملفوظ قصصي بمعنى الخطاب القصصي، يكون شفويا أو مكتوبا، وينقل حدثا أو سلسلة من الأحداث.

- أنـها تـكـون بمـعنى الحـكاية، التي تتمـثل في المضمون القصصي، الذي قوامه الأحداث، واقعية كانت أو متخيلة.

- أنها فعل للقص في حد ذاته أو ما يسمى أيضا سردا. ولئن اختلفت مفاهيم القصة في هذه التعريفات فإنها، في نهاية الأمر، ملتئمة في مفهوم أوسع ينتظمها. فهـي تقال أو تكتب لتخـبر عن الأحـداث الجارية في الحكاية. وهي حامل للمضمون القصصي. وهي أيضا مجال تظهر فيه علامات تحيل على فعل القص أو السرد، الذي ينجزها" [4] .

أما علم السرد [5] فحين يتناول مفهوم القص فإنه يشير إلى ثلاثة معان لهذا القص تتمثل في: الأول: المضمـون السـردي (الحـكاية)، الذي يتمثل في الأحداث المضمنة فيها؛ والثاني: فعل القص نفسه (طريقة السرد)، وما يتبعه من إنشاء علاقات بين أطراف عملية السرد (السارد، السرد، المسرود له)؛ [ ص: 27 ] والثالث: الملفـوظ السـردي، أي الهيئة التي يظهر عليها فعل القص مكتوبا أو شفهيا [6] .

والسؤال الذي يواجه الباحث في مجال القصة القرآنية، هل يخضع القص القرآني لهذه المعاني؟؟

يجب أن ندرك بداية أن القص القرآني لا يخضع بالضرورة لشروط القص الإنساني؛ لأن مبدعه هو الله عز وجل، الذي أبدعه لأغراض دينية وجمالية ومعرفية، يدعونا إلى اكتشافها من خلال التبصر والتدبر، لكننا نستأنس بهذه المفاهيم، لتحديد فهمنا لها، بعد أن نتتبع مظان ورود مادتها في القرآن الكريم.

إن لفظ القـص ومشتقاته في القرآن الكريـم يقتـرب من معنى المتابعة، إلا أننا يمـكن أن نشـير إلى كون من يتتبع الخـبر في القصة القرآنية هو الله عز وجل، الذي هو مطلع عليه بصورة شاملة، فهو كلي العلم والمعرفة: ( فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) (الأعراف:7).

وقد وردت مادة (ق ص ص) في عدد من سور القرآن الكريم، منها واحـدة سميت القصـص، أولها من حيث ترتيب المصحف كلمة (القصص) في الآية (62) من سـورة آل عمـران، وردت تعقيـبا على قصـة عيسى، عليه السلام: ( إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ) . والقصص الحق هنا ينفي الألوهية عن غير الله [7] . [ ص: 28 ]

ثم ورد الفعلان (قصصنا، ونقص) في الآية (164) من سورة النساء: ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ) وذلك في معرض تأكيد وحدة الرسالة السماوية.

ثم وردت في كل من سور الأنعام والأعراف وهود وغافر. وتشترك هذه الألفاظ في معنى إيراد أخبار الأمم السابقة، وترتبط ببيان الحقيقة الإلهية وبعث الرسل برسالة ذات غاية وهدف واحد، وتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ، كما "تشير إلى حقيقتين، أولاهما: كون القصص بعلم، أي صادرا عن معرفة يقينية وليس مجرد تخيل، وثانيتهما: الإشارة إلى هدف القص وهو التدبر والتقوى والصلاح" [8] ، والثبات على الحق.

ويعتمد القرآن الكريم عددا من المرادفات، التي تشترك مع المعنى القصصي وديمومته للشروع في فعل القص/السرد وإيراد الخبر على مستوى الفعل والمصدر، إلا أنها تكتسب دلالات أخرى حسب السياق، الذي ترد فيه. من هذه المرادفات:

- الحـديث: ويعـني الخبر لغة، ويحضر في النص القرآني بدلالات مختلفة، لكن مـا يهـمنا في هذا الصدد هو حضوره للتعبير عن الشروع في فعل القص/السرد، كما في قوله تعالى: ( وهل أتاك حديث موسى ) (طه:9). [ ص: 29 ]

- النبأ: ويعني الخبر والإعلام لغة، ويحضر مقترنا بفعل القص للتعبير عن الإخبار بالقصص، في مثل قوله تعالى: ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ) (طه:99)، و ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق ) (الكهف:13).

- التـلاوة: وتعـني القراءة لغـة، لكنـهـا حضرت مرادفـة للقص في مثـل قـوله تعـالى: ( نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق ) (القصص:3)، أي نقص عليك.

وهذه المرادفات الدلالية في أساسها اللغوي دوال مختلفة تحيل إلى مدلول واحد هو الخبر، الذي يشكل جوهر ونواة القصة في القرآن الكريم.

وتعتبر القصة في القرآن الكريم إحدى أهم وسائل التبليغ القرآنية المتعددة في الشكل، والمتحدة في الهدف [9] ، ولذلك فهي ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطرق عرضه وإدارة حوادثه كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة، التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق، بل هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية [10] ، وخطابا توجيهيا يؤثر في النفس الإنسانية، بسبب ما يتضمنه من متعة السرد وجمال الإيقاع وعمق المعاني مما تميل إليه النفس وتألفه [11] . [ ص: 30 ]

مـن هنـا يمـكن أن نفـرق بين مسـتـويـين من مسـتـويات القـص في القرآن الكريم:

- مستـوى الأخـبـار السـردية الـمـنـتـجـة لفعل القص، كما في الآيات (13-20) من سورة البقرة.

- ومستوى القصة باعتبارها متنا حكائيا، ينتظم وفق نسق المبنى الحكائي الخاص، كما في قصة بداية الخلق في سورة البقرة. والمستويان معا يجمعهما مصطلح القصة القرآنية، بوصفها بنية مكتملة، تحمل في طياتها معناها الخاص، الأمر الذي يحتاج إلى تقص علمي دقيق لتوصيفها. ولا شك أن البلاغة ستكون عدة مسعفة لاستنطاق مكنوناتها وجمالياتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية