الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بلاغة القص في القرآن الكريم وآفاق التلقي

الدكتور / سعاد الناصر

1- سورة الكهف:

إن البناء، الذي تقوم عليه القصة القرآنية، بناء محكم، يخضع للغرض، الذي سيقت له، ضمن سياق السورة، التي وردت فيها. وبما أن طريقة التحليل الممكنة للوقوف على النظام، الذي يقوم عليه أي نص يقوم على اعتباره صنفا قابلا للتحليل إلى مكونات والتي بدورها تكون قابلة للتحليل إلى مكونات أصغر وهكذا [1] ، فإن الوحدة الكبرى، التي تنبني عليها سورة الكهف هي التركيز على العقيدة. [ ص: 80 ]

فهي من السور، التي تضمنت مجموعة من القصص، ترتبط فيما بينها بوحدة الغرض، الذي هو تصحيح العقيدة، وتصحيح منهج النظر والفكر والقيم بميزان هذه العقيدة.

وهي مكية بالاتفاق، نزلت بعد سورة الغاشية وقبل سورة الشورى [2] ، وقد أجمع عدد من العلماء على أن تصحيح العقيدة ووضع منهج رباني للفكر والقيم هو الطابع العام، الذي تشتمل عليه السور المكية بصفة عامة.

وسياق الموضوعات الرئيسة في قصص سورة الكهف يقوم على تقرير حقائق العقيدة، ويرتبط بمجموعة من القضايا، التي عرضتها:

قصة أصحاب الكهف، تحكي عن فتية هربوا بدينهم، لينجوا من بطش السلطة الظالمة. وهم أنموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها، والالتجاء إلى رحمة الله، هربا بالعقيدة أن تمس [3] .

وقصـة صاحب الجنتين تحكي عن رجل أنعم الله عليه، لكنه تجبر وطغى، ولم يحسن شكر النعمة، في مقابل الرجل المؤمن بالله، والمستصغر لزخرف الأرض.

وقصة موسى، عليه السلام، والرجل الصالح تحكي عن الفرق بين الحكمة الإنسانية العاجلة، والحكمة الكونية الآجلة. [ ص: 81 ]

أما قصة ذي القرنين، فهي تحكي عن الملك العظيم، الذي جمع بين الملك والقوة، وحكم بمنهج الله، وأرجع كل خير إلى رحمته تعالى وفضله عليه.

وكل الموضوعات تصب في إطار قضية الفتنة، التي قد تصيب الإنسان، فتنة الدين، فتنة المال والولد، فتنة العلم، فتنة السلطة، وكيفية مواجهتها من خلال أمثال ونماذج حية، تنتقل بالمتلقي ليعيش أجواءها ومزالقها وتجنب الوقوع فيها.

وهذا خيط ناظم لمجموع القصص، يكشف عن الصراع الحاصل بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين المحيطين به. فإذا كان على بينة من دينه وإيمانه، فإن الصراع ينتقل من الداخل إلى الخارج، كما في قصة الفتية وذي القرنين والأحداث، التي وقعت لموسى، عليه السلام، والرجل الصالح، أما إذا كان مغترا بنفسه ظالما لها، فإن الصراع يتحول من الخارج إلى الداخل. وهو صراع يجلي حقيقة العقيدة وكيفية تصحيحها بمخاطبة المتلقي، سواء كان المتلقي الأول، الذي جاء الخطاب باسمه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم كان مجموع المتلقين من أول نزول الوحي إلى ما شاء الله للبشرية أن تبقى.

لذلك نسمع في تقديم قصة أهل الكهف مخاطبة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر والتأسي بقوله: ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) (6)، ونسمع في ختامها التذكير بمشيئة الله ودعائه للهداية: ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ) (23-24). [ ص: 82 ]

وفي بداية قصة صاحب الجنتين نسمع توجيه الله لرسوله وللمؤمنين بالصبر في قوله تعالى: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) (28)، ونستمع في ختامها إلى قوله تعالى بخطاب ضمني: ( هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ) (44)، للتأكيد على حتمية الجزاء.

وفي بداية قصة موسى، عليه السلام، مع الرجل الصالح نستمع إلى قول موسى مؤكدا عزمه على الصبر في طلب العلم، يقول تعالى: ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) (60)، وتختم بحديث الرجل الصالح مقررا استعجال الإنسان مهما بلغت درجات صلاحه ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) (82).

وفي بداية قصة ذي القرنين يقول تعالى مخاطبا نبيه: ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) (83).

وفي ختام القصة نستمع إلى التقييم الرباني للأعمال وللقيم وللإنسان، يقول تعالى: ( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا * قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) (102-104).

وبالإضافة إلى وحدة الخطاب الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناظم لبدايات القصص ونهاياتها، نجد تناسبا بينها وبين بداية السورة ونهايتها، فقوله تعالى [ ص: 83 ] مركزا على ذكر الوحي القيم المنزل على نبيه: ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ) (1-2) منسـجم مـع خاتمتـها، التي يطـلب فيـهـا من نبيه، عليه السلام، مخـاطبـة قومه للتأكيد عليهم أن الوحي من عند الله، وأنه لا عاصم إلا توحيد الله والعمل الصالح.

وهذا الانسجام الناظم لوحدة الخطاب، نجد فيه تلك البراعة فيما يعرف في البلاغة بالاستهلال وحسن التخلص، فهما لا تقحمان المتلقي في الموضوع مباشرة، وإنما تحضره نفسيا لتلقي أحداثها، وما يمكن أن تتركه فيه من آثار في عقله ووجدانه.

كما رأينا أن بداية كل قصة تفتتح بصيغ مختلفة يوحد بينها الخطاب المتوجه نحو المتلقي الأول لها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي بدايات تخضع لتكوين سردي يتجلى في كل عتبات الولوج إلى القصة والخروج منها.

والصراع والتضاد يتجلى منذ البداية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، وهو صراع كان منذ الأزل، منذ آدم، عليه السلام، وإبليس. وقد أشار الله عز وجل إلى هذا الصراع الأزلي في السورة: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) (50)، ليربط بينه وبين أوجه الصراع في القصص. ففي قصة أهل الكهف، كان هناك صراع بين [ ص: 84 ] السلطة المشركة الظالمة وبين الفتية المؤمنين الهاربين إلى الكهف، وفي قصة صـاحب الجنتين كان الصـراع بين الغـني المتـكبر والفقـير المؤمن، وفي قصة ذي القرنين، كان هناك "أكثر من صراع في رحلاته الثلاث، بين من ظلم ومن لم يظلم، بين يأجوج ومأجوج وبين الآخرين" [4] .

وهذا الصراع العام هناك أفضى إلى تقابل محوري في المواقف، التي تخللت القصص كلها، أضفى على القصص تماسكا مميزا.

فقد صيغت الموضوعات وفق بناء تقابلي، مثل موقف أهل الكهف، الذي يجسد نبذا للحياة الاجتماعية، التي كانوا يحيونها، أي نبذ زينة الحياة الدنيا، في مقابل موقف صاحب الجنتين، المتشبث بزينة الحياة الدنيا، المتمثلة في المال والنفر والأعناب. والتقابل بين موقف الكافر المتكبر على نعم الله عليه، وموقف المؤمن، الذي كان يحاول إرشاد صاحبه.

كذلك وقع التقابل على مستوى الشخصيات بين الكافر المتكبر نفسه، الذي كان يملك جنتين، واعتقد أنها لن تبيد أبدا، وبين ذي القرنين، الذي كان يملك المشرق والمغرب، لكنه كان يقر برحمة الله وبنعمته عليه.

كما تـمت المقابلة على مستوى المكان في إطار البناء والهدم: بناء مسجد على الكهف، بناء الجدار المنقض، بناء الردم بين السدين؛ أما الهدم فيتمثل في خرق السفينة، الجدار قبل ترميمه، دك الردم بين السدين حين يأتي وعد الله. [ ص: 85 ]

ومن لطائف المقابلة حالات الخفاء والظهور، كما حدث لأصحاب الكهف، والكنز المدفون، ويأجوج ومأجوج، فجميعهم يمثل حالة الاختفاء عن الأنظار، أو الدفن تحت الأرض تعقبها حالة الخروج أو الظهور. ومثل هذه المقابلات, التي يستشفها المتلقي، تنسج خيطا ناظما يحقق الانسجام والتناسق بين أجزاء السورة.

ولا تقتـصر المقـابلـة عـلى الجـانب الـدلالي وإنمـا تتم على مستوى الجانب اللفظي أيضا، وأمثلة ذلك كثيرة في قصص سورة الكهف، من ذلك قوله تعالى: ( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) (18).

وللزمن في قصص السورة حضور عميق، فيه من الانسجام والاتساق الشيء الكثير، وهذا الحضور مبعثه زمن الحاضر المتلقي للقصص، سواء كان حاضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم حاضر من يتلقى القرآن، وغيب الماضي والمستقبل، الذي لا يعلم حقيقته وأخباره إلا الله.

فزمن قصة أهل الكهف وصاحب الجنتين وموسى، عليه السلام، والرجل الصالح وذي القرنين زمن ماض من الحياة الدنيا، واسترجاع له للتأثير على الحاضر. ويحيل على جدل زمني، يكمن في مدة رقاد أصحاب الكهف، وفي التقدير الخاطئ للمستقبل عند صاحب الجنتين، وفي عدم صبر موسى، عليه السلام، على كشف الزمن المستقبلي، وفي تأخر بقاء يأجوج ومأجوج داخل [ ص: 86 ] الردم. وهكذا تجتمع في هذه السورة كل الأزمنة، أزمنة الغيب وأزمنة الشهادة؛ على أن المسألة ليست حسابية، بل هناك أثر نفسي يؤديه هذا الانسجام والتناسب والتناسق العجيب حين يجتمع الحاضر الدنيوي، وهو زمن الصراع مع الشرك، تصغيرا لمساحته، مع أزمنة القصص الممتد من ماضي الغيب السحيق، إلى مستقبل الغيب الأبدي [5] .

وتعـد الفاصـلـة من أبرز مظـاهر الانسجام في سورة الكهف، وهي كلمـة تأتي آخر الآية [6] ، كقـافية الشعر وسجعة النثر، ومن المعلوم أن للفاصلة في التقفية دورها النفسي، سواء في إيقاعها الموسيقي أم في علاقتها الجوئية بالآية، التي ترد فيها أو المقطع في مجموعة آيات، أو علاقتها الكلية بمجمل السورة [7] .

وتختص سورة الكهف بحركة الفتح، التي تتحول إلى ألف مد في الإطلاق (كـ: حسنا، حسنا). وحركة الفتح تضفي أهمية موسيقية على كل فواصل السورة. وقد التزمتها باطراد، وقامت مقام الروي في الشعر، فسوغت تعدد حروف الروي ذات المخارج المتقاربة، وهي حروف اللسان: ق، ج، ض، ل، ن، ر، د، ط، ص، ز، ومثال فواصلها: (مرفقا، عوجا، عرضا، عملا، حسنا، نهرا، أبدا، فرطا، قصصا، جرزا)، وغير المتقاربة مثل حرف العين الحلقية [ ص: 87 ] والحروف الشفوية: ف، م، ب، و، المتحركة بالفتح. ومثال فواصلها: (تسعا، أسفا، علما، هزوا، كذبا) [8] .

ولـكل فاصـلـة من تلك الفـواصل دورها وأهميتـهـا في سياقـهـا الجـزئـي أو الكلي، تضفي على القصص انسجاما وتناسبا، سواء في الدلالة أم في الإيقاع الموسيقي. ففاصلة ( هزوا ) مثلا وردت في موضعين: الأول في قوله تعالى: ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) (56)، والثاني في قوله تعالى: ( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ) (106).

و"تكرار فاصلة هزوا تكرار فني مقصود، لا يراد منه أن تذكر الثانية بالأولى من باب التناغم الموسيقي وحسب، بل يضاف إلى ذلك، التعقيب بذكر العقاب، الذي جاء نتيجة للجدال بالباطل، واتخاذ الآيات والنذر والرسـل مـادة للهـزء والسخـرية، بعـد وصف أهوال القيامة: ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا * أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا * قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك [ ص: 88 ] الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ) (99-106).

وذلك كله بعد سرد قصة ذي القرنين الحاكم العادل القوي، الذي قال عن السد المحصن بالحديد والنحاس ممزوجين: ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ) ، وبعد قصة موسى، عليه السلام، والرجل الصالح، التي أوضحت الفرق بين حكمة الإنسان المحدودة وحكمة الرحمن، التي لا حدود لها [9] .

وبالإضافة إلى ما ذكرته سابقا من الانسجام والتماسك والتناسب الدلالي والإيقاعي، فإن هناك انسجاما واتساقا على المستوى الشكلي، وقد وظف القرآن لذلك وسـائل كـثـيـرة، وسـأقتـصر عـلى الروابـط ودورهـا في تحـقيـق هـذا التمـاسـك، كالنعت وعطف النسق [10] ، في التلخيص، الذي استهل به الله عز وجل قصة أهل الكهف قبل أن يفصل القول فيها، وذلك في قوله: ( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ) (10-12). [ ص: 89 ]

والروابط الموجودة في الآيات تتمثل في العطف في الآية العاشرة بالفاء والواو، وهو ربط بين أربع جمل: ( أوى الفتية ) ، ( فقالوا ربنا ، آتنا من لدنك رحمة ، وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) ، ويحدث التماسك بين العاشرة والحادية عشرة بالفاء التي وقعت في جواب الطلب أو الدعاء، ( فضربنا ) ، ثم يربط بين الآية الحادية عشرة والثانية عشر بـ ( ثم ) .

كما تتمثل الروابط في النعت في قوله تعالى: ( سنين عددا ) ، فعددا نعت لسنين. وهذه التوابع نجدها على طول القصص تحقق انسجاما وتناسقا، سواء داخل كل قصة على حدة، أم بين القصص ككل.

وبالنظر إلى القضية الأم، التي تعرضها القصص في سورة الكهف، نجد أن مظاهر الانسجام والتناسب تصب في مجال تجلية ثنائية الكفر والإيمان المهيمنة عليها رغم تنوع موضوعاتها. وقد برزت في بلاغة إعجازية، تماهى فيها الانسجام الجمالي مع الانسجام المعرفي، وشكلا معا وحدة موضوعية، متسقة مع كليات القرآن التشريعية.

التالي السابق


الخدمات العلمية