الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بلاغة القص في القرآن الكريم وآفاق التلقي

الدكتور / سعاد الناصر

2- سورة يوسف:

وقصة يوسف، عليه السلام، في القرآن الكريم لها طابع خاص، فهي قصة إنسانية اجتماعية شديدة الجاذبية، وهي القصة القرآنية الوحيدة، التي تخصـصـت لها سـورة محددة تحمل اسم النبي يوسف، عليه السلام، وتتميز بأنها تبدأ القصة من بدايتها إلى نهايتها، منذ أن حكى يوسف لأبيه يعقوب الحلـم إلى أن التقى يوسف بأبيه وأسرته في مصر بعد وقائع وأحداث مؤثرة. [ ص: 90 ] لذا ستـكون محاولة مقاربة مظـاهر الانسجام والتناسب فيها تختلف عن سورة الكهف.

ويستهل الله عز وجل سورة يوسف بقوله تعالى: ( الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) (1-3). وهو استهلال يتضمن تأكيدا على ما في السورة من وضوح وبيان وتأدية للمعاني، التي تقوم بالنفوس [1] ، وحسن تجلية للقصة المعروضة. وفيه انسجام وتناسب بين ما ورد في آخر السورة، التي قبلها ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) (هود:120)، وبين ما سيأتي من سرد لقصـة أحـد أنبياء الله، عليهم السلام، ووجه التناسب بينهما أن تلك "الأنباء المقصوصة، فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم، فأتبع ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل للرسول صلى الله عليه وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب".

فقصة يوسف، عليه السلام، من هذا الاعتبار سرد استرجاعي يتناول أحداثا حقيقية، وقعت في غابر الأزمان، من أجل تأثيره في حاضر المتلقي. والوحدة الجامعة بين الماضي والحاضر تقوم على دعامتين أساستين: الصبر على [ ص: 91 ] الشدائد، والرجاء في فرج الله ونصره، ثم التقابل بين الشدة والفرج، وبين العسر واليسر. وامتازت بالتسلسل الأحداثي المتواصل، دون أي تقطيع لحركية أحداثها ونموها. فهي من بدايتها إلى نهايتها وحدة سردية واحدة. وإذا كانت هذه القصـة استرجاعا تاريخيا مستهدفا، يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على رؤية ماضوية بما فيها من إشارة له، لحدث مستقبلي، وهو هجرته إلى المدينة، وما سيكون له فيها من النصرة والقوة، فإن هذه الوحدة بالنسبة إلى المتلقي في العصر المعاصر، استرجاع مزدوج.

وهذه الثنائية تعمل أضعافا مضاعفة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يتذكر يوسف، والمتلقي المعاصر يتذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولا وما جرى لنبي الله يوسف، عليه السلام، ثانيا [2] .

وتنقسم القصة إلى مراحل زمنية متتالية، وحلقات سردية تتبع مسار تطور الشخصية الرئيسة فيها وهي يوسف، عليه السلام، مرحلة الطفولة، ومرحلة الشباب، ومرحلة القيادة.

المشهد الأول من المرحلة الأولى يبدأ برواية يوسف، عليه السلام، لوالده الرؤيا، التي رآها، وتحذيره من حكيها على إخوته: ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) [ ص: 92 ] ( قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ) (4-6).

ويتميز السرد باتكائه على الرؤيا، التي قدمت الشخصية الرئيسة في القصة، وهي يوسف، عليه السلام، في علاقته بأبيه وإخوته، وقد صاحب التقديم تذييل استباقي يلخص المكانة، التي سيصلها يوسف، عليه السلام، مستقبلا ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ) (6).

ويـتـتـابع السـرد في تسـلسـل بديـع، يحـكي مجمـوعة من الأحداث، التي وقعـت ليوسف، عليه السلام، في ترابط وانسجام، منذ إلقائه في البئر وإنقاذه إلى استقراره في قصر العزيز، يقول تعالى: ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ) (19-20).

وقد تتالت الأفعال في الآيتين الكريمتين تتاليا سريعا، رشيقا، بالفاء العاطفة، التي تفيد ترتيب حدوث الأفعال وتعاقبها دون فارق زمني يذكر، وهذا معناه أن المسافرين لما صاروا على مقربة من البئر أسرعوا في إرسال من يجلب [ ص: 93 ] لهم الماء ( فأرسلوا واردهم ) ، فأسرع هذا بدوره ملبيا حاجتهم إلى إحضار الماء بسرعة ( فأدلى دلوه ) وهنا تختفي (الفاء) ( قال يا بشرى ) ، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: (فقال يا بشرى) ذلك أن البشرى تقتضي المفاجأة، وهذا ما يتحقق بحذف الفاء لتأتي العبارة مفاجئة، للدلالة على البشارة. ثم يضع السرد المتلقي أمام طلب العزيز مباشرة، وذلك بأخذ امرأته الطفل وجعله ولدا لها، كي تربيه وتكرم مثواه: ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) (21).

ويختم الله هذه المشاهد من طفولة يوسف، عليه السلام، بقوله تعالى: ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (21). وهنا أيضا تذييل استباقي، يجعل المتلقي يتوقع انفراج الأزمات على يوسف، عليه السلام، رغم ما يصيبه من ابتلاءات، ويربط الأحداث السابقة باللاحقة.

وينتقل السرد من فترة طفولة يوسف، عليه السلام، إلى مرحلة الشباب بشكل جمالي بارع يطوي الفترة الزمانية: ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) (22)، ليلتقي المتلقي مباشرة مع ابتلاء آخر يهزه ويصدمه، لتتوالى الأحداث بعد ذلك في تتابع تصاعدي، ودقة متناهية، تشهد بالإعجاز البياني في القرآن الكريم، يقول تعالى: ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ) [ ص: 94 ] ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ) (23-29).

من بداية هذه الآيات تحضر امرأة العزيز في السرد، يستهلها عز وجل بلفظة المراودة، والرود هو التردد في طلب الشيء برفق، ومنه الرائد لطالب الكلاء، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد، فراودته، أي سعت في طلبه بشتى الوسائل [3] ، وقوة اللفظة الدلالية تكشف عن موقف المرأة من فتاها، الذي ربته، وعن بلوغ الحدث درجة كبيرة من التعقيد والتوتر.

ويزداد إحساس المتلقي بعظم الجرم، الذي تسعى إليه امرأة العزيز بتوظيف ( التي هو في بيتها ) بدلا من يوسف؛ لأن الإتيان بلفظة البيت في غاية الدقة، والدلالة المتولدة عن توظيفها أعم وأعمق من توظيف أي لفظ آخر. [ ص: 95 ]

وتتطور الأحداث وتتنامى بإيقاع سريع وانسجام بديع: ( وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ) ، وقصد السرد تشديد الفعل للتكثير [4] ، للدلالة على مدى حرصها على الإطباق على يوسف، عليه السلام. وقالت ( هيت لك ) أي تعال، لقد تهيأت لك. كلمة من ثلاثة حروف تختصر دلالات عدة معبرة عن استسلام وتزين ورغبة المرأة في يوسف، وعن أمر مولوي يصدر عن سيدة لخادمها. فهيت لك تدل على إعمال المولوية والسيادة مع إشعار يوسف بأنها هيأت له من نفسها ما ليس بينه وبين طلبها إلا مجرد إقباله عليها. ويبادر يوسف إلى القول: ( معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ) ، والمراد بربـه هنا‏:‏ سيـده، أي زوجـها، الذي اشـتراه من مصر والذي كان قد قال لامرأته حين أتى به‏:‏ ‏ ‏‏ ( أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) (‏يوسف‏:‏21‏)، فهـو أوصى بـه امـرأتـه، فـقـال لـهـا‏:‏ ‏ ‏‏ ( أكرمي مثواه ) ‏‏ ، لذا قال يوسف‏:‏ ‏ ‏‏ ( إنه ربي أحسن مثواي ) ، والضمير في‏:‏ ( إنه ) ‏ ‏ ‏ معلوم بينهما، وهو زوجها. فالتناسب قائم بين كرم المثوى وحسن هذا المثوى.

كما أن هناك تقابلا بين الخيانة في موقف امرأة العزيز والإخلاص في موقف يوسف، عليه السلام، لقد رفض الخيانة؛ لأن الله أتاه العلم والتقوى، فاستحيى أن يخون، الذي أكرم مثواه، فعدم الخيانة لها سبب ذاتي هو تقوى [ ص: 96 ] يوسـف، عـلـيـه السـلام، وسـبـب موضوعي هو الإخلاص لمن أحسن مثواه. وتوظيف الأسلوب الحواري هنا كثف البنية السردية، وترك الأحداث تـتـسـارع مـن خـلاله، فتعددت الصور، وتنوعت مظاهرها النصية، وقدمت كل شـخـصـيـة حـسـب القيـم، التي تحركها، وتنتج مواقفها وأفعالها. ويردف الله تعالى في هذا السياق تذييلا مناسبا يؤكد قيمة الإخلاص في الممارسة السلوكية: ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) (24).

ويتصاعد التوتر والصراع، فالمرأة لم ترتدع رغم رفض يوسف، عليه السلام، وحاولت معه مرة أخرى، فيهرب منها، ويجري إلى الباب يحاول الخروج فتسابقه، تريد صرفه، وتشق قميصه من شدة لهفتها عليه.

وفي تلك اللحظات الحرجة يدخل العزيز، وكان للمرأة من سرعة البديهة والمكر ما حاولت بهما قلب الصورة، التي يشاهدها العزيز أمامه: ( قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ) (يوسف:25)، وحاول يوسف دفع التهمة عنه، فـ ( قال هي راودتني عن نفسي ) ، وكان أحد الأهل حاضرا، فتدخل ليحكم بينهم: ( وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن [ ص: 97 ] عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ) (يوسف: 26-29).

فالشاهد أسند للقميص عملية الفصل بين يوسف، عليه السلام، وامرأة العزيز. ورأى العزيز الدليل، وظهرت براءة يوسف، عليه السلام، واضحة بجلاء، لكن رد فعل العزيز على خطيئة زوجته لم يكن مناسبا، وهذا يدل على البيئة المتفسخة، التي كان المجتمع يعيش فيها، بحيث أصبحت الفاحشة شيئا عاديا لا يثير، لذا اكتفى العزيز بقوله: ‏ ( إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ) ‏ (28-29)، والتأكيد على الكيد الوارد هو وصف العزيز للنساء جميعا، وليس وصف الله تعالى لهن، فالأمر يتعلق بالنظرة التاريخية للمرأة، وظفها العزيز كي يعلن عن موقفه وموقف المجتمع منها، وهو موقف خاطئ ينتج عنه تصرف غير مسؤول: انس يا يوسف، ولا تذكر ما حصل، وتراجعي يا زوجتي، إنك خاطئة!!

ومع ما استجد من أحداث ندرك أن العزيز ظل سلبيا تجاه هذا الأمر الخطير، الذي وقع في بيته وعلى مرأى منه، وظلت المرأة مصدر غواية ليوسف، عليه السلام، داخل البيت، الذي يجمعهما. وانتشر الخبر، لتنتقل الأحداث من البيت إلى المجتمع في تصاعد متناسق: ( وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ) (يوسف:30). [ ص: 98 ]

وقد وظف الله تعالى لفظة المراودة نفسها للتعبير عن تكرار الأمر وذيوعه، ويؤكد استمرارية الضغط على يوسف، عليه السلام، ومعاناته. ويجد المتلقي نفسه إزاء صورة قصصية حوارية تتحدث فيها النسوة عن خطيئة امرأة العزيز، مركزة على ثلاثة عناصر متداخلة ومترابطة:

العنصر الأول، هو المراودة بما يحمله من ثقل دلالي، وجاءت بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت، لقصد استحضار الحالة العجيبة، واستنكارها في أنفسهن ولومها على صنيعها.

العنـصر الثـاني، هـو تـوصيـف حـالـة امرأة العزيز، التي وصلت إلى حـالة الشغف، أي أن حب المرأة اخترق الشغاف فبلغ القلب، كناية عن تمكنه فيه [5] .

العنصر الثالث، الحكم عليها، والضلال هنا يعني مخالفة طريق الصواب، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى [6] ، وليس المراد الضلال الديني، وهذا كقوله تعالى: ( إن أبانا لفي ضلال مبين ) (يوسف:8).

ويسـترسل السـرد في تتبع الأحـداث بسماع امرأة العزيز ما يدور من لغط حولها، فتدبر حيلة كي تري يوسف، عليه السلام، للنساء، يقول تعالى: ( فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش [ ص: 99 ] لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) (31). وأعتدت: أصله أعددت، أبدلت الدال الأولى تاء، كما في قوله تعالى: ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) (النساء:37).

فالسياق هنا يكشف عن مشهد من إعداد المرأة المفتونة بيوسف لمواجهة مكر النسوة، فنجدها هيأت مجلسا فخما، مناسبا للطعام ولمداولة الحديث بين نساء الطبقة الأرستقراطية، وأعطت لكل واحدة منهن سكينا، وقصدت من تقديمه أن يؤدي وظيفتين: وظيفة ظاهرة في سياق الآية تدل على التقطيع، ووظيفة مضمرة ترمز إلى دلالات القسوة والانتقام وطغيان الشهوة الكامنة في نفس امرأة العزيز. وكلها دلالات لها وقع خاص على تحريك مشاعر المتلقي والتفاعل مع الحدث بشدة، وانتظار ما سيسفر عنه، بعد أن أمرت يوسف، عليه السلام، بالخروج إليهن. ( فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) ، فهذه عبارات الإعجاب والدهشة والذهول، وهذا ما كانت تريد امرأة العزيز أن تصل إليه، لذلك قالت قولة تكشف عن إصرارها على إغرائه بفعل المعصية، وإن لم يستجب فسيكون مصيره السجن: ( قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ) (يوسف:32).

ومن خلال الدعاء، الذي ناجى به يوسف، عليه السلام، ربه في خضم هذا المشهد، نفهم أن فعل الإغراء والفتنة لم يكن مقتصرا على المرأة فقط، [ ص: 100 ] وإنما انتقل منها إليهن: ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ) (يوسف:33)؛ لأن فعل الدعوة مسنود للجمع. فالحرية هنا مقابلة للخيانة، والإخلاص مقابله السجن.

وفي غمرة الدعاء يجد المتلقي نفسه أمام لفتة إنسانية مبهرة تثير مشاعره، وتربيه على الالتجاء إلى الله في كل الأحوال، مهما كان صلاحه وقوته في مواجهة مغريات الحياة: ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ) (يوسف:33-34)، "فـهي دعوة الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته; فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته, يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء" [7] .

وتزداد الأحداث تناميا، وتتطور المواقف، وتتعقد العلاقات بين الشخصيات، فتتوتر وتتأزم، ويدخل يوسف، عليه السلام، السجن ظلما وعدوانا. وحين تتاح له فرصة الخروج لا يتلهف عليه، بل يصر على البقاء حتى ترفع عنه التهمة، التي ألصقت به، ويطلب التحقيق في المؤامرة، التي حيكت ضده، باستجواب النسوة، اللائي حضرن مأدبة المرأة، ليكن شاهدات في قضيته: ( قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ) (50). [ ص: 101 ]

لـقـد رد يـوسـف، عـليـه السـلام، أمـر العـزيز باستدعـائـه حـتى يستـوثق مـن أمـر التهمـة، التي دخل بسببها السجن، وحتى يتحقق من شـأن النسـوة اللاتي قطعـن أيديهن، "تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها، وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظـهر الحقيقـة خـالصـة، دون أن يتدخـل هـو في مناقشتها. كل أولئك لأنه واثـق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلا، ولا يخذل طويلا" [8] .

ويسكت السرد عن ملابسات التحقيق، ليقدم النسوة مباشرة أمام العزيز، يسأل عن الأمر الجلل، الذي وقعن فيه: ( ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ) (51)، وكان الجواب واضحا دون جدال: ( قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) (51)، وهنا تتقدم المرأة، التي شغفها يوسف، عليه السلام، حبا وحاولت إغراءه بكل الوسائل: ( قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) (51)، "وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد؛ وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن: ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد [ ص: 102 ] الخائنين ) (52)، وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر" [9] .

وهنا ينتهي الصراع بين امرأة عاشقة استسلمت لنداءات الشهوة والخيانة، وغيبت قيم الشرف والإخلاص والفضيلة، وبين فتى محفوف بعناية الله، معتصم برحمته، متمسك بكل القيم الإنسانية.. ينتهي لصالحها بعد أن وقع تحول في عقيدتها وموقفها، وتغيير نحو الأحسن.

فالمرأة وإن لم يكشف السرد عن طبيعة التحول، وطبيعة التغيير، الذي جعلها تعترف بأنها المخطئة، وتعلن توبتها: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) ، إلا أن السياق العام يوحي بأن تقوى يوسف، عليه السلام، وموقفه الصارم في مواجهتها، وتمسـكه بالله والالـتـجـاء إليـه، والـدعـوة إلى عبـادته، كل ذلك جعـلـهـا تتغير نحـو تحملها مسؤولية الذنب، الذي اقترفته، وتتحول نحو إعلان التوبة، وإعلان مدى ضعف الإنسان أمام نفسه الأمارة بالسوء إلا من رحمه الله واعتصم به سبحانه.

وتبدأ مرحلة أخرى من مراحل حياة يوسف، عليه السلام، وهي مرحلة القيادة، حيث تحققت حكمة الله من الابتلاءات، التي أصابته، وقعد على اقتصاد مصر، يدبره بحكمته وسداد رأيه، وكما بدأت القصة بالرؤيا والوعد [ ص: 103 ] بالتمكين، انتهت بتحقيق الرؤيا وتحقيق التمكين والنصر والقوة بعد الشدة والسجن والإغراء.

وقد احتف سورة يوسف بالفاصلة، سواء في إيقاعها الموسيقي أم في علاقتها الجزئية بالآية، التي ترد فيها، أو علاقتها الكلية بمجمل السورة. وقد اعتمدت على حرف المد، الذي يسبق الروي الساكن مثل: عظيم، مبين، يشكرون. وزاوجت بين الفاصلة المتجانسة كالصالحين والزاهدين والظالمين، وبين الفاصلة المتقاربة كيسير وعليم. وقد تراعي الفاصلة الفواصل السابقة واللاحقة لتناسب بينها، في مثل قوله تعالى: ( لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) (46)، فقد تكررت كلمة "لعل" مراعاة لفواصل الآيات السابقة واللاحقة المختومة بالنون.

إن المتتبع لأنواع العلاقات في تناسب قصة يوسف، عليه السلام، وانسجامها، يذهل من تنوعها وتأثيرها على المتلقي، كالالتفات والإجمال والتفصيل والاستطراد والفاصلة وغير ذلك، وحسبي أنني حاولت أن أجدد التعرف على بعض هذه الأنواع ومستوياتها، بفضل الله وعونه. [ ص: 104 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية