وأما السكر ، فهو النيء من ماء التمر المشتد  ، وهو حرام عندنا  ، وقال  شريك بن عبد الله    : هو حلال لقوله تعالى {    : ومن ثمرات النخيل ، والأعناب تتخذون منه سكرا ، ورزقا  [ ص: 4 ] حسنا    } ، والرزق الحسن شرعا ما هو حلال ، وحكم المعطوف ، والمعطوف عليه سواء ، ولأن هذه الأشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على ما كان من قبل . 
( ألا ترى ) أن في الآيات بيان حكم الخمر ، وما كان يكثر وجود الخمر فيهم بالمدينة  ، فإنها كانت تحمل من الشام  ، وإنما كان شرابهم من التمر ، وفي ذلك ورد الحديث : { نزل تحريم الخمر ، وما بالمدينة  يومئذ منها شيء ،   } فلو كان تحريم سائر الأشربة مرادا بالآية لكان الأولى التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم ; لأن حاجتهم إلى معرفة ذلك . 
وحجتنا في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {   : الخمر من هاتين الشجرتين الكرم ، والنخل   } ، ولم يرد به بيان الاسم لغة ; لأنه ما بعث مبينا لذلك ، وبين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتي من ماء العنب ، وواضع اللغة خص كل عين باسم هو حقيقة فيه ، وإن كان قد يسمى الغير به مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفلة الواضع ، والضرورة الداعية إلى ذلك ، وذلك غير متوهم هنا ، فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة ، ولما سئل  ابن مسعود  رضي الله عنه عن شرب المسكر لأجل الصفر ،    : قال إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ، فأما قوله تعالى { تتخذون منه سكرا ، ورزقا حسنا    } ، فقد قيل : كان هذا قبل نزول آية التحريم ، وقيل : في الآية إضمار ، وهو مذكور على سبيل التوبيخ ، أي تتخذون منه سكرا ، وتدعون رزقا حسنا ؟ فإن طبخ من العنب أدنى طبخه ، أو ذهب منه بالطبخ أقل من الثلثين ، ثم اشتد ، وغلا ، وقذف بالزبد ، فهو حرام عندنا    . 
وقال  حماد بن أبي سليمان  رحمه الله إذا طبخ حتى نضج حل شربه ، وكان  بشر المريسي  يقول : إذا طبخ أدنى طبخه ، فلا بأس بشربه ، وكان  أبو يوسف  رحمه الله يقول أولا : إذا طبخ حتى ذهب منه النصف ، فلا بأس بشربه ، ثم رجع ، فقال ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد ، وهو قول  أبي حنيفة  رحمه الله ، وعن محمد رحمه الله أنه كره الثلث أيضا ، وعنه أنه توقف فيه ،  وعنه  أنه حرم ذلك كله إذا كان مسكرا ، وهو قول  مالك   والشافعي  ، وطريق من توسع في هذه الأشربة ما ذكرنا أن قبل نزول التحريم كان الكل مباحا ، ثم نزل تحريم الخمر ، وما عرفنا هذه الحرمة إلا بالنص ، فبقي سائر الأشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله ، ومن أثبت التحريم في الكل قال : نص التحريم بصفة الخمرية ، والخمر ما خامر العقل ، وكل ما يكون مسكرا ، فهو مخامر للعقل ، فيكون النص متناولا له ، ولكنا نقول الاسم للتي من ماء العنب حقيقة ، ولسائر الأشربة مجازا  [ ص: 5 ] ومتى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز ، وهبك أن الخمر يسمى لمعنى مخامرة العقل ، فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا . 
( ألا ترى ) أن الفرس الذي يكون أحد شقيه أبيض ، والآخر أسود يسمى أبلق ، ثم الثوب الذي يجتمع فيه لون السواد ، والبياض لا يسمى بهذا الاسم ، وكذلك النجم يسمى نجما لظهوره ، قالوا : نجم أي ظهر ، ثم لا يدل ذلك على أن كل ما يظهر يسمى نجما ، وإمامنا فيما ذكرناه من إباحة شرب المثلث   عمر  رضي الله عنه ، فقد روي عن جابر بن الحصين الأسدي  رحمه الله أن  عمار بن ياسر  رضي الله عنه أتاه بكتاب  عمر  رضي الله عنه يأمره أن يتخذ الشراب المثلث لاستمراء الطعام ، وكان  عمار بن ياسر  رضي الله عنه يقول لا أدع شربها بعد ما رأيت  عمر  رضي الله عنه يشربها ، ويسقيها الناس ، وقد كان  عمر  رضي الله عنه هو الذي سأل تحريم الخمر ، فلا يظن به أنه كان يشرب ، أو يسقي الناس ما تناوله نص التحريم بوجه ، ولا يجوز أن يقال : إنما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد ذهب بالطبخ نصيب الشيطان وربح جنونه ، وهذا ; لأنه إنما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام ، وإنما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو . 
وقد دل على هذه الجملة الآثار التي بدأ  محمد  رحمه الله بها الكتاب ، فمن ذلك حديث زياد  قال : سقاني  ابن عمر  رضي الله عنه شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي ، فغدوت عليه من الغد ، فأخبرته بذلك ، فقال ما زدناك على عجوة وزبيب  وابن عمر  رضي الله عنه كان معروفا بالزهد ، والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم ، فلا يظن به أنه كان يسقي غيره ما لا يشربه ، ولا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم ، وقد ذكرنا أن ما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله ، وإنما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر ، فإن ذلك لا يحل ، وفي قوله ما زدناك على عجوة وزبيب دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب ، والتمر ، وإن كان مشتدا ، وأنه لا بأس بشراب الخليطين بخلاف ما يقوله المتقشفة : إنه لا يحل شراب الخليطين    . 
وإن كان حلوا لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراب الخليطين   } ، وتأويل ذلك عندنا  أن ذلك كان في زمان الجدب كره للأغنياء الجمع بين النعمتين ، وفي الحديث زيادة ، فإنه قال ، وعن القران بين النعمتين ، وعن الجمع بين نعمتين ، والدليل على أنه لا بأس بذلك في غير زمان القحط حديث {  عائشة  رضي الله عنها قالت : كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا ، فلم يستمرئه ، فأمرني ، فألقيت فيه زبيبا   } ، ولما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر ، والفانيذ  [ ص: 6 ] ، وعن  ابن عمر  رضي الله عنه أنه سئل عن المسكر ، فقال الخمر ليس لها كنية ، وفيه دليل تحريم السكر ، فإن مراده من هذا الجواب : أن السكر في الحرمة كالخمر ، وإن كان اسمه غير اسم الخمر ، فكأنه أشار إلى قوله عليه الصلاة والسلام { الخمر من هاتين الشجرتين   } . 
قال : وسئل عن الفضيخ  قال مراده بذلك الفضوح ، والفضيخ الشراب المتخذ من التمر بأن يفضخ التمر أي يشدخ ، ثم ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ، ثم يترك حتى يشتد ، وفيه دليل على أن التي من شراب التمر إذا اشتد  ، فهو حرام سكرا كان ، أو فضيخا ، فإن السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا ، وفي قوله بذلك الفضوح بيان أنه يفضح شاربه في الدنيا والآخرة لارتكابه ما هو محرم قال : وسئل عن النبيذ ، والزبيب يعتق شهرا ، أو عشرا قال الخمر أختها ، وفي رواية اجتنبها أي هي في الحرمة كالخمر ، فاجتنبها ، فظاهر هذا اللفظ دليل لما روي عن  أبي يوسف  قال لا يحل ماء الزبيب ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان ، فإن قوله الخمر اجتنبها إشارة إلى ذلك أي الزبيب إذا نقع في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل أن يتزبب ، فكما أنه لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب منه الثلثان ، فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر  ، ولكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر وماء التمر سواء إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه ، ومراد  ابن عمر  رضي الله عنه تشبيهه النيء منه بالخمر في حكم الحرمة ، وعن  معاذ بن جبل  رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن  قال { انههم عن نبيذ السكر ، والمراد النيء من ماء التمر المشتد   } ، وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عادة أهل اليمن  في شرب ذلك ، فلهذا خصه بالأمر بالنهي عنه ، وسماه نبيذ الحمرة في لونه ، وعن  حصين بن عبد الرحمن  قال كان  لأبي عبيدة  كرم بزبالة كان يبيعه عنبا ، وإذا أدرك العصير باعه عصيرا ، وفي هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير ، والعنب  مطلقا ما دام حلوا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					