الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 100 ] قال رحمه الله ) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يشتري من رجل عبدا بعشرة آلاف درهم ، وقيمته ألف ، وعلى دفع الثمن ، وقبض العبد ، وقد كان المشتري حلف أن كل عبد يملكه فيما يستقبل ، فهو حر ، أو حلف على ذلك العبد بعينه ، فقد عتق العبد ; لأنه ملكه بالقبض بعد الشراء لما بينا أن شراء المكره فاسد ، وبالملك يتم شرط العتق فاسدا كان السبب ، أو صحيحا ، والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ، فكأنه أعتقه بعد ما قبضه ، فيعتق ، وعلى المشتري قيمته للبائع ، ولا يرجع على المكره بشيء ; لأنه ألزمه بالإكراه على الشراء ، والقبض مقدار القيمة ، وقد أدخل في ملكه بمقابلة ما يعد له ، ثم دخل في ملكه تلف بالعتق ، ولم يوجد من المكره إكراه على هذا الإتلاف ; لأن الملك شرط العتق فأما السبب ، وهو الثمن السابق ، فلأن كلمة الإعتاق ، وهي قوله أنت حر وجدت في اليمين دون الشرط ، وإنما يحال بالإتلاف على السبب دون الشرط ، وهو ما كان مكرها عليه من جهة أحد .

( ألا ترى ) أنه لو قال لعبده : إن دخلت الدار ، فأنت حر ، فشهد شاهدان أنه قد دخلها ، وقضى القاضي بالعتق ، ثم رجعا لم يضمنا شيئا ، وفي قياس قول زفر رحمه الله يجب الضمان على المكره ; لأنه يقول الحكم مضافا إلى الشرط وجودا عندي ، ولهذا أوجب الضمان على شهود الشرط ، فكذا في الإكراه يوجب الضمان على المكره على الشرط لحصول تلف المالية عنده ، ولكنا نقول المكره إنما يضمن إذا صار الإتلاف منسوبا إليه ، ولا يكون ذلك إلا بالإكراه على ما يحصل به التلف بعينه .

وكذا لو أكرهه على شراء ذي رحم محرم منه ، وعلى قبضه بأكثر من قيمته ، فاشتراه ، وقبضه عتق عليه ; لأنه ملكه ، ومن ملك ذا رحم محرم منه ، فهو حر ، وعليه قيمته ; لأن الشراء فاسد ، وقد تعذر رد المشتري لنفوذ العتق فيه ، فيلزمه قيمته ، ويبطل عنه ما زاد على قدر القيمة من الثمن ; لأنه التزمه مكرها ، والتزام المال مع الإكراه لا يصح ، ولا يرجع على المكره بشيء ; لأنه عتق بقرابته ، ولم يوجد من المكره إكراه على تحصيل السبب الذي به حصل العتق ، فإن قيل : لا كذلك ، فالمالك هنا متمم عليه العتق ; لأن القريب إنما يعتق على القريب بالقرابة ، والملك جميعا ، والحكم متى تعلق بعلة ذات ، وصفين يحال به على آخر الوصفين وجودا ، ولهذا لو اشترى قريبه ناويا عن كفارته جاز ; لأن بالشراء يصير معتقا متمما لعلة العتق ، فهنا المكره يكون متمما عليه العتق ، فيضمن قيمته كما لو كان أكرهه على الإعتاق بعينه قلنا نعم الملك متمم عليه العتق ، ولكن بين المشتري ، والعبد ; لأن القرابة [ ص: 101 ] وجدت في حقهما ، فأما في حق المكره ، فالشراء ليس بمتمم عليه العتق ; لأن أحد الوصفين ، وهو القرابة غير موجود في جانب المكره إذ لا صنع له في ذلك أصلا ، والإضافة إليه باعتبار صنعه ، فإذا انعدم ذلك الوصف في حقه لم يكن الشراء إتلافا في حقه ، وما لم يصر الإتلاف منسوبا إليه لا يجب الضمان عليه ، فأما في الكفارة ، فالشراء متمم للعلة في حق المشتري ، والقريب ، فيصير به معتقا ، والثاني أن عتق القريب بطريق المجازاة مستحق عليه عند دخوله في ملكه إلا أنه إذا نوى به الكفارة ، وقع عما نوى ، ولم يكن مجازاة للقرابة ، فتتأدى به الكفارة ، فأما هنا ، فالمكره ما نوى شيئا آخر سوى المجازاة ; لأنه إذا نوى شيئا آخر يصير طائعا ، والمكره إنما أكرهه على المجازاة ، فيكون هذا إكراها على إقامة ما هو مستحق عليه ، وذلك لا يوجب الضمان على المكره كما لو أكرهه على أن يؤدي زكاة ماله ، أو يكفر يمينه .

وكذلك لو أكرهه على شراء أمة قد ، ولدت منه ، أو أمة مدبرة إن ملكها ; لأن التدبير ، والاستيلاد إنما يحصل عند وجود الشرط بالسبب المتقدم ، وهو لم يكن مكرها على ذلك السبب ، وثبوت حق العتق بها عند وجود الشرط لا يكون أقوى من ثبوت حقيقة الحرية ، وقد بينا أن الإكراه على إيجاد الشرط في حقيقة الحرية لا يوجب الضمان على المكره ، فكذلك في حق الحرية ، واستوضح بفصل الشهادة إذا شهد شاهدان على رجل أنه اشترى هذا العبد بألف درهم هي قيمته ، والبائع يدعي البيع ، وقد كان المشتري قال إن ملكته ، فهو حر ، فقضى القاضي بذلك ، وأعتقه ، ثم رجعا ، فلا ضمان عليهما ; لأنه إنما أعتقه بقوله ، فهو حر لا بشرائه ، والشهود ما أثبتوا تلك الكلمة بشهادتهم ، وكذلك لو قال : عبده حر إن دخل هذه الدار ، فأكرهه بوعيد تلف حتى دخل ، فإنه يعتق ; لأنه هو الداخل بنفسه ، وإن كان مكرها بخلاف ما إذا حمل ، فأدخل ; لأنه الآن مدخل لا داخل ، فلا يصير الشرط به موجودا إلا أن يكون قال : إن صرت في هذه الدار ، فعبدي هذا حر ، فحمله المكره حتى أدخله الدار ، وهو لا يملك من نفسه شيئا ، فإنه يعتق لوجود الشرط ، ولا ضمان على المكره في الوجهين ; لأن العتق إنما حصل بقوله هو حر لا بحصوله في الدار ، فإن الحرية من موجبات قوله هو حر لا من موجبات دخول الدار ، فالإتلاف الحاصل به لا يكون مضافا إلى من أدخله الدار .

ولذلك لو قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فأكره على تزوجها بمهر مثلها طلقت ، ولزمه نصف الصداق لها بسبب الطلاق قبل الدخول ، ولم يرجع على المكره بشيء ; لأنه ما أكرهه على الطلاق إنما أكرهه على التزوج ، وقد دخل في ملكه بالتزوج ما يعادل ما لزمه من المهر ; لأن [ ص: 102 ] البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم قال .

( ألا ترى ) أنه لو قال لامرأته ، ولم يدخل بها إن شجني اليوم أحد ، فأنت طالق ، أو قال ذلك لعبده ، فشج ، إن العبد يعتق ، والمرأة تطلق ، وعلى الشاج أرش الشجة ، وليس عليه من قيمة العبد ، ولا من نصف الصداق شيء للمعنى الذي قلنا وزفر رحمه الله في الكل مخالف ، ولكن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية