الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو باعه المشتري من المكره من آخر ، وقد كان قبضه بتسليم البائع مكرها ، فالبائع على خياره إن شاء نقض البيع الأول ، والثاني ، وأخذ عبده ، وإن شاء أجاز البيع الأول ; لأن البيع الثاني في كونه محتملا للفسخ كالأول ، والبائع غير راض بواحد من البيعين فيكون متمكنا من استرداده ، وباسترداده ينفسخ البيعان جميعا كما لو اشترى عبدا بألف درهم حالة ، وقبضه المشتري بغير أمر البائع ، فباعه كان جائزا لمصادفته ملكه ، وللبائع الأول أن يسترده ; لأنه غير راض بالعقد الثاني حين كان ممتنعا من تسليمه إلى المشتري ، فإذا استرده انتقض البيع الثاني ، وكذلك في حق المكره بخلاف البيع الفاسد بشرط أجل ، أو خيار لمجهول ، فالمشتري هناك إذا باعه من غيره ، ونفذ بيعه لا يكون للبائع أن يسترده ; لأن البيع الثاني حصل برضا البائع الأول تسليطه عليه ، فتسليمه المبيع إلى المشتري طائعا يكون تسليطا له على التصرف ، وهنا البيع الثاني كان بغير رضا المكره ; لأنه كان مكرها على التسليم ، فيتمكن من نقض البيعين ، واسترداد العبد ، فإن أجاز البيع الأول ، فقد أسقط حقه في استرداد العبد ، فينفذ البيع الثاني ; لأنه حصل من المشتري في ملكه ، ويده كما لو قبض المبيع بغير إذن البائع ، وباعه ، ثم سلم البائع الأول للمشتري الأول ، فقبضه جاز البيع الثاني لهذا المعنى ، وكذلك في الفصلين يجوز كل بيع جرى فيه ، وإن تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض إذا نفذ البيع الأول بإجازة البائع كذلك البيع بقبض المشتري ; لأن كل واحد منهم باع ملكه بعد ما قبضه بحكم عقد صحيح إلا أنه كان للبائع الأول حق الفسخ ، فإذا سقط حقه بالإجازة نفذت البيوع كلها ، وكذلك في مسألة المكره لو تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض كان للمكره أن ينقض البيوع كلها ، ويأخذ عبده ، فإن سلم بيع من هذه البيوع الأول ، أو الثاني ، أو الآخر جازت البيوع كلها ; لأن تسليمه إسقاط منه لحقه في استرداد المبيع .

فأما البيع من كل مشتر ، فكان في ملكه لنفسه ، ولكن يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الفسخ ، وبالإجازة سقط حقه ، فتنفذ البيوع كلها كالراهن إذا باع المرهون ، وأجاز المرتهن البيع ، أو الآجر [ ص: 96 ] باع المستأجر ، فأجازه المستأجر بعد البيع من جهة المباشر ، والمجيز يكون مسقطا حقه في الفسخ إلا أن يكون مملكا بإجازته ، وإذا جازت البيوع كلها كان الثمن للمكره على المشتري الأول ، ولكل بائع الثمن على المشتري ; لأن العقد الأول نفذ بين المكره ، والمشتري الأول بهذه الإجازة ، فله أن يطالبه بالثمن ، وكل عقد بعد ذلك إنما نفذ بين البائع ، والمشتري منه فيكون الثمن له ، وهذا بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب ، وسلمه ، ثم باعه المشتري من غيره حتى تناسخته بيوع ، ثم أجاز المالك بيعا من تلك البيوع ، فإنه ينفذ ما أجازه خاصة ; لأن الغصب لا يزيل ملكه ، فكل بيع من هذه البيوع يوقف على إجازته لمصادفته ملكه ، فتكون إجازته لأحد البيوع تمليكا للعين من المشتري بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه ، وهنا المشتري من المكره كان مالكا ، فالبيع من كل مشتر صادف ملكه ، وإنما يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الاسترداد .

وعلى هذا لا يفترق الحال بين إجازة البيع الأول ، أو الآخر ، فلهذا نفذت البيوع كلها بإجازته عقدا منها ، فإن أعتقه المشتري الآخر قبل إجازة البائع ، وقد تناسخ العبد عشرة كان العتق جائزا من الذي أعتقه إن لم يقبضه ; لأن كل بائع صار مسلطا المشتري منه على إعتاقه بإيجابه البيع له مطلقا ، وصح هذا التسليط ; لأنه يملك الإعتاق بنفسه ، فيملك أن يسلط الغير عليه ، ويستوي أن الآخر قبضه ، أو لم يقبضه ; لأن شراءه من بائعه صحيح ، وإن كان للمكره حق الفسخ بالاسترداد ، وفي الشراء الصحيح المشتري تملك المعقود عليه بنفس العقد ، وينفذ العتق فيه قبضه ، أو لم يقبضه بخلاف المشتري من المكره ، فإن شراءه فاسد لانعدام شرط الجواز ، وهو رضا البائع به ، فلا يكون مالكا قبل القبض ، فلهذا لا ينفذ عتقه فيه إلا بعد قبضه ، فإذا سلم المكره بعد ذلك لم يجز تسليمه لما بينا أن حقه تقرر في ضمان القيمة ، فلا يتحول إلى ضمان الثمن ، وإن المحل بعد العتق لم يبق قابلا لحكم العقد ابتداء ، فلا تعمل إجازته أيضا ، وكان له أن يضمن قيمة عبده أيهم شاء ; لأن كل واحد منهم متعد في حقه بقبض العين على وجه التملك لنفسه بغير رضاه ، فله أن يضمن قيمته أيهم شاء ، وإن شاء ضمن المكره ; لأنه في التسليم كان مكرها من قبله بوعيد تلف ، فيصير الإتلاف الحاصل به منسوبا إلى المكره ، فله أن يضمنه قيمته ، فإن ضمن الذي أكرهه رجع بها على المشتري الأول ; لأنه قام مقام المكره في الرجوع عليه بعد ما ضمنه القيمة ، وقد بينا أن البيع لا ينفذ من جهة المكره حين ضمن القيمة ; لأنه ما قصد البيع من جهته ، فإذا رجع بالقيمة على المشتري الأول جازت البيوع كلها ، وكذلك إن ضمن البائع المشتري الأول برئ الذي أكرهه ، وتمت البيوع [ ص: 97 ] الباقية كلها ; لأن الملك قد تقرر للمشتري الأول من حين قبضه ، وهو إنما باع ملك نفسه ، فينفذ بيعه .

وكذلك كل بائع بعده ، ولأنه في هذا لا يكون دون الغاصب ، والغاصب إذا باع ، ثم ضمن القيمة ينفذ بيعه ، فهنا كذلك ، فإن ضمنها أحد الباعة الباقين سلم كل بيع كان بعد ذلك البيع ، وبطل كل بيع كان قبل ذلك ; لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين ، وإن القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين ، ولو استرد العين منه بطل كل بيع كان قبله للاستحقاق ، فكذلك إذا استرد القيمة ، وجاز كل بيع كان بعده ; لأن الملك قد تقرر للضامن حين ضمن القيمة ، فتبين أنه باع ملك نفسه ، فيكون بيعه جائزا حتى إذا ضمن المشتري الآخر بطلت البيوع ; لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العبد ، ويرجع هو على بائعه بالثمن الذي أعطاه ، وكذلك كل مشتر يرجع على بائعه حتى ينتهوا إلى البائع المكره ; لأن البيوع كلها قد انقضت ، وكل واحد منهم قبض الثمن بحكم بيعه ، فبعد الانتقاض يلزمه رده على من قبضه منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية