الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فأما نبيذ التمر ، ونبيذ الزبيب ، فإن لم يطبخ حتى غلا ، واشتد وقذف [ ص: 14 ] بالزبد ، فهو حرام لما روينا من الآثار فيه ، وبعد الطبخ يحل شربه ، وإن اشتد ، واتفقت الروايات في التمر أن المعتبر فيه أدنى الطبخ ، وهو أن ينضج ، وفي الزبيب المعتق كذلك ، وهو أن يكسر بشيء ثم تستخرج حلاوته بالماء كما في التمر ، وأما إذا وقع في الماء ، فقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - أنه يعتبر فيه الطبخ حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى ثلثه كما في العصير ، والوجه فيه ما حكي عن السلف رحمهم الله أن ما يكون منه العصير ابتداء إذا أعيد إلى ما كان عليه في الابتداء ، فحكم ما يعصر منه حكم العصير ، وما لا يكون منه العصير في الابتداء لا يثبت فيه حكم العصير في الانتهاء ، فما يسيل من الرطب في الابتداء يحل بأدنى الطبخ ، فكذلك في الانتهاء ، وما يسيل من العنب في الابتداء لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه ، فكذلك في الانتهاء ، فأما في ظاهر المذهب ، فالزبيب ، والتمر سواء ، وإذا طبخ أدنى طبخه ، فإنه يحل شرب القليل منه ، وإن اشتد ; لأن العصير الذي كان في العنب قد ذهب حين زبب ، والزبيب عين آخر سوى العنب .

( ألا ترى ) إن غصب عنبا ، فجعله زبيبا انقطع حق المغصوب منه في الاسترداد ، فإذا تعتبر حاله على هذه الصفة ، وعلى هذه الصفة هو والتمر سواء في الحكم ، ثم التي من نبيذ التمر والزبيب ، وإن كان لا يحل شربه ، فهو ليس نظير الخمر في الحكم حتى يجوز بيعه في قول أبي حنيفة رحمه الله ، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله : لا يجوز بيعه ، ولا يجب الحد بالشرب منه ما لم يسكر ، وإذا أصاب الثوب منه أكثر من قدر الدرهم تجوز الصلاة فيه ، وكذلك المنصف ، وهو الذي ذهب بالطبخ نصفه إذا غلا ، واشتد لا يحل شربه ، ولكن يجوز بيعه عند أبي حنيفة ولا يجب الحد على من شرب منه ما لم يسكر ، وتجوز الصلاة فيه إذا أصاب الثوب منه ما لم يكن كثيرا فاحشا ، وفي النادق ، وهو ما طبخ أدنى طبخه ، وكان دون النصف ، فأظهر الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله أنه بمنزلة المنصف في حكم البيع والحد ، وعنه في رواية أخرى أنه ألحق بالخمر في أنه لا يجوز بيعه ، وأما حكم النجاسة فيه ; فلأنه مختلف بين العلماء رحمهم الله في حرمته ، ويتحقق فيه معنى البلوى أيضا ، وباعتبار هذين المعنيين يخف حكم النجاسة كما في بول ما يؤكل لحمه ، وأما في حكم الحد ، فلأن العلماء رحمهم الله لما اختلفوا في حرمته ، فالاختلاف المعتبر يورث شبهة ، والحد مما يندرئ بالشبهات .

وأما حكم البيع ، فهما يقولان إن عينه محرمة التناول ، فلا يجوز بيعه كالخمر ، وهذا ; لأن البيع باعتبار صفة المالية ، والتقوم باعتبار كونه منتفعا به شرعا ، ولا منفعة في هذا المشروب سوى الشرب ، وإذا كان محرم الشرب شرعا كان ، فاسدا لماليته ، والتقوم شرعا ، فلا يجوز بيعه كالخمر ; ولأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم [ ص: 15 ] سوى في الخمر بين البيع والشرب حين لعن بائعها ومشتريها كما لعن شاربها ، وهذا ; لأن البيع يكون تسليطا للمشتري على الشرب عادة ، فإذا كان الشرب حراما حرم البيع أيضا ، وهذا المعنى موجود في هذه الأشربة وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا شراب مختلف في إباحة شربه بين العلماء رحمهم الله ، فيجوز بيعه كالمثلث ; وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع ، فإن الدهن النجس لا يحل تناوله ، ويجوز بيعه ، وكذلك بيع السرقين جائز ، وإن كان تناوله حراما ، والسرقين محرم العين ، ومع ذلك كان بيعه جائزا ، فكذلك المنصف ، وما أشبهه ، وبطلان بيع الخمر عرفناه بالنص الوارد فيه ، وما عرف بالنص لا يلحق به إلا ما يكون في معناه من كل وجه .

وهذه الأشربة ليست في معنى الخمر من كل وجه بدليل حكم الحد ، وحكم النجاسة ، فجاز بيعها باعتبار الأصل ، فأما المثلث على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، فلا بأس بشربه ، والمسكر منه حرام ، وهو رواية عن محمد رحمه الله أيضا ، وعنه أنه كره شربه ، وعنه أنه حرم شربه ، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله احتجوا في ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : كل مسكر حرام } ، وفي رواية قال { : ما أسكر كثيره ، فقليله حرام } ، وفي رواية { ما أسكرت الجرعة منه ، فالجرعة منه حرام } ، وفي رواية { ، فملء الكف منه حرام } ; ولأن المثلث بعد ما اشتد خمر ; لأن الخمر إنما يسمى بهذا الاسم لا لكونه ماء .

( ألا ترى ) أن العصير الحلو لا يسمى خمرا ، وإنما تسميته بالخمر لمعنى مخامرته العقل ، وذلك موجود في سائر الأشربة المسكرة ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { كل مسكر خمر } .

ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على إثبات هذا الاسم له ، فإذا سماه صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام به وهو أفصح العرب أولى ، يوضحه أن الكثير من هذه الأشربة مساو للكثير من الخمر في حكم الحرمة ، ووجوب الحد ، فكذلك القليل ، وبهذا تبين أن القليل في الحرمة كالكثير ; لأن شرب القليل منه لو كان مباحا لما ، وجب الحد ، وإن سكر منه ; لأن السكر إنما حصل بشرب الحلال والحرام جميعا ، فباعتبار جانب الحلال يمنع وجوب الحد عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية