وفيه دليل أنه لا بأس ، فإن بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا ، وإن كان مشتدا رضي الله عنه قد شرب منه بعد ما صب عليه الماء ، وسقى أصحابه ، ثم لم يبين أن الأعرابي أذن له في الشرب من إداوته ، ولكن الظاهر أنه شرب ذلك بإذنه حتى روي أنه قال أتضربني فيما شربته ، فقال عمر رضي الله عنه إنما حددتك لسكرك ، فهو دليل أنه عمر يلزمه الحد ، وعن إذا سكر من النبيذ الذي يجوز شرب القليل منه حماد رضي الله عنه قال دخلت على رحمه الله ، وهو يتغذى ، فدعا بنبيذ ، فشرب ، وسقاني ، فرأى في الكراهة ، فحدثني عن إبراهيم رحمه الله أنه كان يدخل على علقمة [ ص: 12 ] رضي الله عنه ، فيتغدى عنده ، ويشرب عنده النبيذ يعني نبيذ الجر وقد روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يعتاد شربه حتى ذكر عن ابن مسعود أبي عبيدة أنه أراهم الجر الأخضر الذي كان ينبذ فيه رضي الله عنه ، وعن لابن مسعود رضي الله عنه قال كنا عند نعيم بن حماد رحمه الله ، وكان يحدثنا بحرمة النبيذ ، فجاء يحيى بن سعيد القطان رحمه الله ، فقال اسكت يا صبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش إبراهيم عن علقمة رحمه الله أنه شرب رضي الله عنه نبيذا مشتدا صلبا ، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نبيذا مشتدا كان يعتاد شربه ، وقد روي عن علي بن أبي طالب قال سقاني عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه نبيذا ، فلما رأى ما بي من التغير بعث معي علي قنبرا يهديني ، وعن أن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه قال إن القوم ليجتمعون على الشراب ، وهو لهم حلال ، فلا يزالون يشربون حتى يحرم عليهم يعني إذا بلغوا حد السكر . عليا
وكذلك رضي الله عنه كان يشرب المثلث ، ويأمر باتخاذه للناس حتى روي عن عمر قال : قلت داود بن أبي هند الطلاء الذي يأمر لسعيد بن المسيب رضي الله عنه باتخاذه للناس ، ويسقيهم منه كيف كان قال كان يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى ثلثه ، والمراد أنه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر رضي الله عنه قال : إنا ننحر جزورا للمسلمين ، والعنق منها لآل عمر ، ثم يشرب عليه من هذا النبيذ ، فيقطعه في بطوننا ، ولكثرة ما روي من الآثار في إباحة عمر ذكر شرب المثلث رحمه الله فيما عد من خصال مذهب أهل السنة ، وأن لا يحرم نبيذ الجر ، وعن بعض السلف قال : لأن أخر من السماء ، فأنقطع نصفين أحب إلي من أن أحرم نبيذ الجر ، وإنما قال ذلك لما في التحريم من رد الآثار المشهورة ، وإساءة القول في الكبار من الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك لا يحل ، فأما مع الإباحة ، فقد لا يعجب المرء الإصابة من بعض المباحات للاحتياط ، أو لأنه لا يوافق طبعه ، وهذه الرخصة تثبت بعد التحريم ، فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا روي عن أبو حنيفة رضي الله عنه قال : شهدت تحريمه كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله ، فحفظت ذلك ، ونسيتم . ابن مسعود
فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة ، وعن رحمه الله قال : إنما كره التمر ، والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم ، والتمر ، وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين ، فأما اليوم ، فلا بأس به ، وهذا منه بيان تأويل النهي إبراهيم ، وأنه لا بأس به اليوم ، وعن عن شراب الخليطين قال : قول الناس ما أسكر كثيره [ ص: 13 ] فقليله حرام خطأ منهم ، إنما أراد السكر حرام ، فأخطئوا ، وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا ، وعن إبراهيم علي بن الحسين رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك ، فمر بقوم يزفتون ، فقال ما هؤلاء ، فقيل : أصابوا من شراب لهم ، فنهاهم أن يشربوا في الدباء ، والحنتم ، والمزفت ، فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة ، فأذن لهم أن يشربوا منها ، ونهاهم عن المسكر } ، وفيه دليل أن الرخصة كانت بعد النهي ، وأنه عليه الصلاة والسلام نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ، ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد أن لا المسكر ، والزبيب المعتق إذا لم يطبخ ، فلا بأس بشربه مما لم يغل ، فإذا غلا ، واشتد ، فلا خير فيه ، والكلام هنا في فصول أحدها في الخمر ، وقد بيناه . يبلغوا حد
وإنما بقي الكلام فيه في ، فصل واحد ، وهو أن عند : العصير ، وإن أشتد ، فلا بأس بشربه ما لم يغل ، ويقذف بالزبد ، فإذا غلا ، وقذف بالزبد ، فهو خمر حينئذ ، وقال أبي حنيفة ، أبو يوسف - رحمهما الله - إذا اشتد ، فهو خمر ; لأن صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل ، وذلك باعتبار صفة الشدة فيه يوضحه أن حرمة الخمر لما في شربها من إيقاع العداوة ، والصد عن ذكر الله تعالى ، وذلك باعتبار اللذة المطربة ، والقوة المسكرة فيها ، فأما بالغليان ، والقذف بالزبد ، فيرق ، ويصفو ، ولا تأثير لذلك في إحداث السكر ، فبعدما صار مشتدا ، فهو خمر سواء غلا ، وقذف بالزبد ، أو لم يغل : يوضحه أنه قد يحتال بإلقاء شيء عليه ، ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ، ولا قذف بالزبد أصلا ، ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا ، فعرفنا أن المعتبر فيه الشدة ومحمد رحمه الله أن المسكر صفة العصير ، وهو أصل لما يعصر من العنب ، وما بقي أثر من آثار الأصل ، فالحكم له . ولأبي حنيفة
( ألا ترى ) أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان .
، ثم حكم الصحة ، والحد لا يمكن إثباته بالرأي ، ولكن طريق معرفته النص والنص إنما ، ورد بتحريم الخمر ، والخمر مغاير للعصير ، ولا تتم المغايرة مع بقاء شيء من آثار العصير ، وقد كان الحل ثابتا فيه ، وما عرف ثبوته بيقين لا يزال إلا بيقين مثله ، وذلك بعد الغليان ، والقذف بالزبد ، والأصل في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنا ، والسرقة لا يجب إلا بعد كمال الفعل اسما ، وصورة ، ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم ، والحدود تندرئ بالشبهات ، فلهذا استقصى رحمه الله ، وقال : لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشدة إلا بعد الغليان ، والقذف بالزبد . . أبو حنيفة