الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ولزومه تكليف )

                                                                                                                            ش : لما ذكر ما يشترط في صحة انعقاد البيع ذكر ما يشترط في لزوم البيع [ ص: 245 ] لعاقده إذ لا يلزم من انعقاد البيع لزومه ، والمعنى أنه يشترط في لزوم البيع أن يكون عاقده مكلفا ، فلو باع الصبي المميز أو اشترى انعقد بيعه ، وشراؤه ، ولكن لا يلزمه ولوليه النظر في إمضائه ، ورده بما يراه أنه الأصلح للصبي وظاهر كلامه أن بيع السفيه البالغ ، والعبد البالغ الذي لم يؤذن له ، والمفلس لازم لهم ; لأنهم مكلفون ، وليس كذلك بل تصرفهم غير لازم ، ولولي السفيه والسيد ، والغرماء النظر في ذلك وتبع المصنف في هذه العبارة ابن الحاجب .

                                                                                                                            وقد اعترضه ابن عبد السلام وغيره بما ذكرنا ، ثم قال ابن عبد السلام : إلا أن يقال إذا أخذ التكليف مأخذ الشرط لا يلزم من وجوده الوجود قال : وفيه نظر هنا انتهى . قلت : وجه النظر والله أعلم أن عادة الفقهاء في مثل هذا الكلام أن يذكروا جميع شروط المسألة حتى انتفاء الموانع ، ووجوه الأسباب بحيث إنه إذا وجد جميع الشروط التي يذكرونها وجد المشروط فيكون ذلك كالضابط للمتعلمين فالاقتصار على ذكر بعض الشروط في مثل هذا المقام مخل بالمقصود فتأمله ، والذي يظهر من كلام المصنف هنا .

                                                                                                                            وفي التوضيح أنه ليس مراده بالتكليف هنا ما هو المشهور ، وهو التكليف بالعبادات التي تترتب على البلوغ ، والعقل بل مراده به هنا ما هو أخص من ذلك وهو التكليف بأحكام البيع الذي يترتب على الرشد ، والطوع على ما ذكره في التوضيح عن ابن راشد القفصي ، ونصه قال ابن راشد : عبر يعني ابن الحاجب بالتكليف عن الرشد والطوع ; لأن السفيه لا يلزمه البيع بل لوليه أن يفسخ وكذلك من أجبر على البيع لا يلزمه البيع يعني إذا أجبر جبرا حراما ثم قال خليل : وما ذكره من أن المكره غير مكلف صحيح ; لأن أهل الأصول نصوا على أن الإكراه الملجئ يمنع التكليف ، وأما السفيه فلقائل أن يقول لا نسلم أنه غير مكلف بالبيع فإن قيل لو كان مكلفا به لزمه البيع قيل يحتمل ، ولو قلنا أنه مكلف بالبيع إذ لا نقول بإمضائه للحجر فتأمله ا هـ .

                                                                                                                            قلت : أما كون المكره على البيع غير مكلف به شرعا ، فصحيح لعدم ، وجود الرضا المشترط في البيع ، وأما ما ذكره عن الأصوليين في مسألة الإكراه الملجئ ، فلا دليل فيه ; لأن مسألة الأصوليين التي اختلفوا فيها هي امتناع تكليف المكره عقلا ، وجواز ذلك عقلا فذهب المعتزلة إلى امتناعه عقلا ، ورجحه ابن السبكي في جمع الجوامع ، وذهب الأشاعرة إلى جواز ذلك عقلا ، وإليه رجع ابن السبكي آخرا ، وأما الشرع ، فأسقط التكليف بالإكراه في كثير من المسائل منها البيع وتوابعه ، ولم يسقطه في بعض المسائل ، واختلف الفقهاء في إسقاطه للتكليف في بعض المسائل لمدارك مذكورة في محلها ليس هذا محل تفصيلها ، وأما السفيه فالظاهر أنه غير مكلف بالبيع أيضا ; لأن التكليف هو الإلزام فإذا لم يلزمه البيع ، فهو غير مكلف به .

                                                                                                                            ويؤخذ ذلك من كلام القرافي في الفرق السادس والعشرين في الفرق بين خطاب الوضع ، وخطاب التكليف ; لأن خطاب التكليف يشترط فيه علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل ، وكونه من كسبه ، وخطاب الوضع لا يشترط فيه شيء من ذلك ، وأنه يستثنى من ذلك قاعدتان إحداهما أسباب العقوبات كالقصاص في العقل ، والثانية أسباب انتقال الملك كالبيع ، والهبة فإن ذلك ، وإن كان من خطاب الوضع فقد اشترطوا فيه علم المكلف ، وقدرته على الفعل ثم ذكر أن خطاب الوضع وخطاب التكليف قد يجتمعان ، وقد ينفرد كل واحد منهما ، وأن مما يجتمعان فيه البيع ; لأنه من جهة كونه يجب أو يحرم أو يندب من خطاب التكليف ، ومن جهة أنه سبب لانتقال الملك من خطاب الوضع انتهى فإذا علم ذلك فالبيع سواء كان من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف يشترط فيه علم المكلف ، وقدرته ، والسفيه غير عالم بمصالحه ، والمكره غير قادر على أن يمتنع مما أكره [ ص: 246 ] عليه ، فقد ظهر أنهما غير مكلفين وصح ما قاله ابن راشد ، وما استظهرناه من كلام المصنف من أنه ليس مراده هنا بالتكليف معناه المشهور ، وهو التكليف بالعبادات الذي ترتب على البلوغ ، والعقل بل مراده به هنا ما هو أخص من ذلك وهو التكليف بأحكام البيع الذي ترتب على الرشد ، والطوع .

                                                                                                                            ولهذا فرع عليه قوله لا إن أجبر عليه جبرا حراما إلا أنه يصير في العبارة قلق فإن معناها حينئذ ، وشرط لزوم البيع الإلزام به ، وذلك دور فلو قال : وشرط لزومه رشد ، وطوع لكان أحسن ، وقول ابن غازي لو قال رشد لكان أولى ; لأنه أعم يوهم أن اقتصاره على الرشد كاف وليس كذلك ، وقوله ; لأنه أعم صوابه ; لأنه أخص فتأمله والله أعلم . وظاهر كلام الشارح والبساطي حمل التكليف في كلام المؤلف على خلاف ما تقدم ، وليس بظاهر بل الظاهر حمله على كلام ابن راشد المتقدم ، والله أعلم ( تنبيهات الأول ) : خرج باشتراط الرشد كل محجور عليه كالصغير ، والسفيه ، والعبد البالغ الذي لم يؤذن له في البيع والشراء .

                                                                                                                            وكل من فيه شائبة رق من مدبر ، وأم ، ولد ، ومعتق لأجل ومبعض إلا المكاتب فإنه أحرز نفسه ، وماله .

                                                                                                                            ( الثاني ) : إذا باع السفيه أو اشترى أوالصغير في حال حجره بغير إذن وليه فإنه يصح ، ويوقف على نظر وليه بذلك من أب أو وصي أو مقدم من جهة القاضي فيجيزه أو يرده بحسب ما يرى أنه الأصلح فإن لم يعلم ، وليه أو علم ، ولم ينظر في ذلك حتى خرج السفيه عن الحجر خير في إجازة ذلك ، ورده فإن لم يكن له ولي قدم القاضي من ينظر في حاله فإن لم يفعل حتى ملك أمر نفسه ، فهو مخير في رد ذلك ، وإجازته ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) : إذا باع المحجور أو اشترى بحضرة وليه وسكت الولي على ذلك ففي ذلك خلاف قال ابن سلمون : في ترجمة إنكاح الأب والوصي الصغير والمحجور قال أبو إبراهيم في مسائله : كل ما عقده اليتيم على نفسه بعلم الوصي ، وشهادته مما هو نظر لليتيم فذلك لازم لليتيم نكاحا كان أو بيعا أو شراء أو غير ذلك من مصالحه ، وما كان من ذلك ليس بمصلحة ، ولا غبطة لليتيم ، فهو لازم للوصي بتضييعه ، وتفريطه في منعه مما ليس بمصلحة ، وقد نزل ذلك عندنا فأشرنا على القاضي بذلك إلا رجلا منا ، فإنه رأى أن ذلك غير لازم لليتيم ، ولا للوصي ، ورأى أن ذلك سقطة من الوصي توجب عزله عن اليتيم ، ولا توجب عليه الضمان ، وهو عندنا ضعيف ; لأن الوصي أمين ، وكل أمين إذا ضيع أمانته أو تعدى فيها فهو ضامن لها ، وذكر الأبهري أن سكوت الوصي إذا رأى محجوره يبيع ، ويشتري ليس برضا ولا يلزمه ذلك ، وكذلك الصغير بمحضر أبيه .

                                                                                                                            وفي كتاب الاستغناء نحو ما ذكره الأبهري في الوصي انتهى . وقال ابن سلمون : أيضا في ترجمة السفيه والمحجور قال الأبهري : فإن رأى الوصي المولى عليه يبيع ويشتري ، وهو ساكت فليس عليه شيء يلزمه لذلك ; لأن في الأصل لا يجوز بيعه وشراؤه فمن باع منه ، وابتاع فقد أتلف ماله وليس سكوت الوصي رضا بذلك لأن من عرف ذلك وجب عليه الامتناع ، ومن لم يعرف وجب عليه البحث ، وكذلك الصغير يبيع أو يشتري بمحضر أبيه انتهى . وذكر في الطرر في الجزء الثاني في ترجمة فسخ الوصي نكاح اليتيم بغير إذن الوصي كلام أبي إبراهيم وذكر في الجزء التاسع من الطرر في ترجمة ، وثيقة تسجيل القاضي بالولاية على رجل كلام الأبهري .

                                                                                                                            وقال : وليس سكوت الوصي رضا بذلك ; لأن من عرف ، وجب عليه اجتنابه ، ومن لم يعرف ، وجب عليه تعرف حاله وذكر كلام الاستغناء ، وقال ابن راشد القفصي : في المذهب في أول كتاب البيع ، ولا يكون سكوت الوصي حين رآه يبيع رضا منه بذلك انتهى . وقال البرزلي : في أوائل مسائل النكاح : إذا كان المحجور يبيع ويشتري ، ويأخذ ، ويعطي برضا حاجره وسكوته فيحمل على أنه هو الذي فعله ، بذلك أفتى شيخنا الإمام يعني [ ص: 247 ] ابن عرفة وبذلك وقع الحكم بتونس ، وذلك في مسائل المحجور انتهى فتحصل فيما باعه بحضرة وليه وسكوته قولان : أحدهما : أن ذلك كفعل الولي ، وهو قول أبي إبراهيم ، وأفتى به ابن عرفة .

                                                                                                                            ووقع الحكم به بتونس ، وبه أفتيت ( والثاني ) : أنه غير لازم له على الأول فإن كان صوابا ومصلحة لزم المحجور ، وإن كان غير مصلحة نقص ما دام المبيع قائما بيد المشتري فإن فات من يده ببيع أو غيره لم ينقض ورجع على المشتري بكمال القيمة على ما أفتى به ابن رشد وسيأتي كلامه في القيام بالصغير إن شاء الله . وإن تعذر الرجوع على المشتري بكل ، وجه ، وكان الوصي عالما بأنه غير مصلحة فالظاهر أنه يضمن كما قاله أبو إبراهيم ( الرابع ) : قال في المدونة : ولا يجوز للمولى عليه عتق ، ولا هبة ، ولا صدقة ، ولا بيع ، ولا يلزمه ذلك بعد بلوغه ، ورشده إلا أن يجيزه ، وأستحب له إمضاءه ، ولا أجبره عليه قال القاضي عياض : ظاهره أنه راجع للجميع ، وعلى ذلك اختصره المختصرون ، وظاهر الأمهات أنه راجع للعتق والصدقة ، والهبة لغير ثواب وعلى الجميع اختصره المختصرون وأنه يستحب له إمضاء جميع ما فعله .

                                                                                                                            وفيه نظر ، والصحيح سواء وأنه لا يستحب له أن يمضي إلا ما كان لله فيه قربة ، وأما ما كان بينه ، وبين العباد فأي استحباب في هذا ، فكذا جاء منصوصا في سماع أشهب على ما تأولناه انتهى . ونقله الشيخ أبو الحسن الصغير ثم قال الشيخ : وقد يكون فيه قربة بإسعاف أخيه المسلم بإمضاء عتقه لغبطة بها كما تكون في الإقالة ، والتولية ، والشركة انتهى ( الخامس ) : إذا باع العبد بغير إذن سيده أو اشترى فللسيد رده ، وإجازته ، وإن لم يرد ذلك حتى أعتقه مضى نص عليه الشيخ أبو الفضل الدمشقي تلميذ القاضي عبد الوهاب في كتاب الفروق له ، وهو ظاهر ، وقد نص في المدونة على أنه إذا تصدق أو وهب أو أعتق ، ولم يرد ذلك السيد حتى أعتقه فإن ذلك يلزمهم سواء علم السيد بذلك قبل عتقهم أو لم يعلم وسينبه المصنف على هذا في باب الحجر .

                                                                                                                            وإذا كان هذا الحكم المعروف فالبيع أولى والفرق بين المحجور ، والعبد أن العبد إنما حجر عليه لحق السيد ، وقد زال بالعتق بخلاف المحجور ، والله أعلم ( السادس ) : يستثنى مما تقدم شراء السفيه للأمور التافهة التي لا بد له منها قال في كتاب المديان من المدونة : ولا يلزم المولى عليه شراؤه إلا فيما لا بد له منه من عيشه مثل الدرهم يبتاع به لحما ، ومثل خبز ، وبقل ، ونحوه يشتري ذلك لنفسه مما يدفع إليه من نفقته انتهى . وسيصرح المصنف بذلك في باب الحجر ، وفيه بقية الفروع المتعلقة ببيع المحجور ( السابع ) : يستثنى من قولنا يشترط في لزوم البيع كون عاقده رشيدا أما إذا كان السفيه ، وكيلا عن رشيد ، فإنه لازم على أحد القولين كما سيأتي بيانه في باب الوكالة .

                                                                                                                            ( الثامن ) : المراد بالإذن في قولنا إذا باع المحجور أو اشترى بغير إذن وليه أن يأذن له في خصوصية العقد المفروض ، وليس المراد أن يأذن له في البيع والشراء على العموم كما يأذن السيد لعبده في التجارة ، فإن ذلك لا يقصد قال في أواخر كتاب المديان من المدونة : وإذا عقل الصبي التجارة فأذن أبوه أو وصيه أن يتجر لم يجز ذلك الإذن ; لأنه مولى عليه .

                                                                                                                            ولو دفع الوصي إلى المولى عليه بعد الحكم بعض المال يختبره به فلحقه فيه دين ، فلا يلزمه الدين فيما دفع إليه ، ولا فيما أبقى ; لأنه لم يخرج من الولاية بذلك ، وهو خلاف العبد يأذن له سيده في التجارة ; لأن العبد لم يمنعه لسفه منه ، وإنما منع من البيع ، والنكاح وغيره ; لأن ملكه بيد غيره فإذا أذن له جاز ، والسفيه ، والصبي ليس ملكه بيد أحد ، فليس الإذن له مزيلا للسفه ، وقال غيره في اليتيم المختبر بالمال : يلحقه ما أذن فيه خاصة انتهى ( التاسع ) : يستثنى من تصرف المولى عليه ما إذا تصدق عليه شخص بصدقة أو وهب له هبة ، وشرط أن تكون يده مطلقة على ذلك فإن تصرفه فيها ماض قال ابن الفرس : في أحكام القرآن في قوله { ولا [ ص: 248 ] تؤتوا السفهاء أموالكم } ويختلف في الرجل يتصدق على المحجور بمال ، ويشترط في صدقته أن يترك في يده ، ولا يضرب على يديه فيها كما يفعل بسائر ماله هل له ذلك ؟ فالمشهور أن ذلك له ، واعترض بعضهم هذا القول ، وفرضه .

                                                                                                                            واحتج بقوله تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } انتهى وقال المشذالي في حاشية المدونة في كتاب الهبة : لو وهب هبة ليتيم أو سفيه ، وشرط أن تكون يده مطلقة عليها ، وأنه لا نظر لوصيه فيها نفذ ذلك الشرط انتهى .

                                                                                                                            ( العاشر ) : إذا باع لسفيه أو اشترى فأراد وليه فسخ تصرفه فأراد المشتري منه أو البائع أن يحلف الولي أنه لم يأذن له في ذلك ، فليس له ذلك وكذلك السيد في عبده ذكره الرعيني في كتاب الدعوى والإنكار ، ونقله عنه ابن فرحون في فصل الدعاوى التي لا توجب يمينا من كتاب التبصرة ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية