[ ص: 262 ] سورة الرعد
مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه، وتارة يتأثر عنه مع أن [له] صوتا وصيتا وإرعابا وإرهابا يهدي بالفعل، وتارة لا يتأثر بل يكون سببا للضلال والعمى، وأنسب ما فيها [لهذا] المقصد الرعد فإنه مع كونه حقا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير والبارز والمستتر، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا، وإذا نزل المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة وتارة يضر بالإغراق أو الصواعق أو البرد وغيرها - والله أعلم.
" بسم الله " الحق الذي كل ما عداه باطل " الرحمن " الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته " الرحيم "الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية المر .
لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات [ ص: 263 ] والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال: تلك أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب آيات والآية: الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة الكتاب المنزل إليك "و" جميع "الذي".
ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمرا لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على [كل] عاقل، وكان [ما] تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيما، بني للمفعول قوله: أنـزل إليك كائن من ربك فثبت حينئذ قطعا أنه هو الحق أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره، فهو أبعد شيء عن قولهم: إن وعده بالبعث سحر، فوجب [لثبوت] حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به ولكن أكثر الناس [ ص: 264 ] أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم، لا يؤمنون أي لا يتجدد منهم إيمان أصلا بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله، بل يقولون: إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنه تخييل ليست معاينة - كما قلنا وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين فليس هدى لهم كاملا ولا رحمة تامة، هذا التقدير محتمل، ولكن الذي يدل عليه [ظاهر] قوله تعالى: أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق أن "الذي" مبتدأ، و " من ربك " صلة "أنزل" والخبر "الحق" والمقصود من هذه السورة هذه الآية، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه، وذلك لأنه لما تم [وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين، عطف الكلام إلى تفصيل أول] [سورة البقرة]، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها، ويلتحم بذلك [وصف] المصدقين بذلك - كما ستقف عليه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله في برهانه: هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله [ ص: 265 ] أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين
فبيان أي السماوات في قوله الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى وبيان أي الأرض في قوله: وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين فهذه أي السماوات والأرض، وقد زيدت بيانا في مواضع، ثم في قوله تعالى: يغشي الليل النهار ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية، ثم زاد تعالى آيات الأرض بيانا وتفصيلا في قوله تعالى: وفي الأرض قطع متجاورات إلى قوله: لقوم يعقلون ولما كان ولهذا قال تعالى] في الآية الأخرى إخراج الثمر بالماء النازل [من السماء من أعظم آية، ودليلا واضحا على صحة المعاد، كذلك نخرج الموتى وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح [ ص: 266 ] مع اتحاد المادة "يسقى" بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى: وفي الأرض قطع متجاورات الآية [بقوله] وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة - الآية، ثم أتبع [ذلك] بما يشعر بالجري [على السوابق] في قوله إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام - الآيات إلى قوله: وما لهم من دونه من وال ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر أي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى والمراد: لكان هذا القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا والتنبيه بعظيم هذه [ ص: 267 ] الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال فهو من نحو إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم "من عرف نفسه عرف ربه" فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في [سورة الرعد] من بسط [آيات] السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات. وأما قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فقد أشار إليه قوله تعالى: ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولو الألباب وقوله تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب فالذين تطمئن [ ص: 268 ] قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى وقليل ما هم والمقول فيهم أولئك هم المؤمنون حقا ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم، وإليهم الإشارة بقوله: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال عليه الصلاة والسلام " " فهذا بيان ما أجمل في قوله الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وأما قوله تعالى: أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله فما عجل لهم من ذلك في قوله: ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله القاطع دابرهم، [و]المستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة الآية، فقد أوضحت أي سورة الرعد سبيله عليه السلام وبينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم، ثم [قد] تعرضت السورة لبيان جلي سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى: الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق إلى آخر ما حلاهم به أخذا وتركا، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه [ ص: 269 ] والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ويقول الذين كفروا لست مرسلا والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر [سورة يوسف ]، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات; ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح [سورة إبراهيم] عليه السلام - انتهى.