الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4360 4636 - حدثني إسحاق، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها [الأنعام: 158] ". ثم قرأ الآية. انظر: 85 - مسلم: 157 - فتح: 8 \ 297].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق البخاري حديث أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا راها الناس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها * لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا [الأنعام: 158].

                                                                                                                                                                                                                              وعنه أيضا: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا [الأنعام: 158]. ثم قرأ الآية.

                                                                                                                                                                                                                              والبخاري روى هذا عن إسحاق بن منصور ، وذكر أبو مسعود الدمشقي وأبو نعيم أنه الكوسج ، وفي نسخة من كتاب خلف الواسطي: رواه -يعني: البخاري - عن إسحاق بن نصر -يعني: السعدي ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 344 ] ولمسلم: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض".

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن مسعود : يطلع معها القمر في وقت واحد كأنهما بعيران، ثم قرأ: وجمع الشمس والقمر [القيامة: 9].

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في أوائل الآيات، ففي مسلم عن ابن عمرو : "أول الآيات طلوع الشمس وخروج الدابة وأيهما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبا منها"، وروى نعيم بن حماد من حديث إسحاق بن أبي فروة، عن زيد بن أبي عتاب، سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "خمس لا يدرى أيتهن أول الآيات. وأيتهن جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ويأجوج ومأجوج، والدخان، والدابة".

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: خروج الدجال؛ ويرجحه قوله - عليه السلام: "إن الدجال خارج فيكم لا محالة"، فلو كانت الشمس طلعت قبل ذلك من مغربها لم ينفع اليهود إيمانهم أيام عيسى، ولو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا بإسلام من أسلم منهم، فإذا قبض عيسى ومن معه من المؤمنين يبقى الناس حيارى سكارى، فرجع أكثرهم إلى الكفر والضلالة، ويستولي أهل الكفر على من بقي من أهل الإسلام، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها، وعنده يرفع القرآن، ثم يأتي الحبشي الكعبة فيهدمها، ثم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 345 ] تخرج الدابة، ثم الدخان، ثم الرياح تلقي الكفار في البحر، ثم النار التي تسوق الناس إلى المحشر، ثم الهدة. أراد أن ذلك أول الآيات العظام، أول الآيات في زمان ارتفاع التوبة والطبع على كل قلب بما هو فيه.

                                                                                                                                                                                                                              ويروى من حديث أبي هريرة فيما ذكره الثعلبي مرفوعا في حديث طويل: "تحبس الشمس عن الناس -حين تكثر المعاصي، ويذهب المعروف- مقدار ليلة تحت العرش، كلما استأذنت ربها من أين تطلع لا تجاب حتى يوافيها القمر صفحة منها، وتستأذن من أين تطلع فلا تجاب حتى يحبسا مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك إلا الموحدون، وهم يومئذ قليل، فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله إليهما جبريل يأمرهما أن يرجعا إلى مغاربهما فيطلعا منه ولا ضوء لهما ولا نور فيطلعان أسودين مثل كسوفهما، فذلك قوله: وجمع الشمس والقمر و إذا الشمس كورت فإذا بلغوا سرة السماء، أخذ جبريل بغروبهما ويردهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ثم يرد المصراعين، ثم يلتئم بابيهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع، فذلك قوله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها [الأنعام: 158] ثم إنهما يكسفان بعد ذلك الضوء والنور ويطلعان ويغربان".

                                                                                                                                                                                                                              وروى نعيم بن حماد من حديث ابن عيينة ، عن عاصم ، سمع زرا، عن صفوان بن عسال يرفعه: "إن بالمغرب بابا للتوبة مسيرة عرضه سبعون أو أربعون عاما لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها" ثم تلا هذه الآية يوم يأتي بعض آيات ربك الآية. وخرجه الترمذي وصححه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 346 ] وروى الطبراني في "الأوسط" بسند فيه ابن لهيعة من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي: إلهي مرني أن أسجد لمن شئت، فيجتمع إليه زبانيته، فتقول: ما هذا التضرع؟ فيقول: إني سألت ربي أن ينظرني إلى يوم الوقت المعلوم، وهذا الوقت المعلوم، ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا فأول خطوة تضعها بأنطاكية، ثم تأتي إبليس فتلطمه" ثم قال: لا يروى هذا الحديث عن عبد الله إلا بهذا الإسناد، وتفرد به عثمان بن سعيد .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن خالويه في "أماليه" من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي حميد الحميري عنه مرفوعا "يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة" ورواه نعيم بن حماد في كتابه عن وكيع ، عن إسماعيل موقوفا، وذكر نحوه ابن عباس مرفوعا فيما ذكره ابن النقيب، وروى نعيم من حديث [ حماد بن سلمة عن علي بن زيد ]، عن العريان بن الهيثم سمع عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة حتى تعبد العرب ما كان يعبد آباؤها عشرين ومائة عام بعد نزول عيسى وبعد الدجال، ومن حديث ابن لهيعة ، ثني ابن عمرو : إن الشمس والقمر يجمعان في السماء في منزلة بالعشي، فيكون النهار سرمدا عشرين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 347 ] وفي رواية عنه: يقال للشمس: اطلعي من حيث غربت، فمن يومئذ حتى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها زاد البيهقي في: "البعث والنشور" عنه: وهي فيما بلغنا أول الآيات.

                                                                                                                                                                                                                              وروى نعيم، عن كثير بن مرة، ويزيد بن شريح ، وعمرو بن سليمان قالوا: آخر طلوع الشمس من المغرب يوم واحد فقط، فيومئذ يطبع على القلوب بما فيها، وترفع الحفظة والعمل، وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملا وتفزع الشمس والقمر خوفا من قيام الساعة.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ووجهه: أنا خلقنا للعبادة، فإذا انقطعت فلا فائدة في القرار.

                                                                                                                                                                                                                              وعن وهب : طلوع الشمس الآية العاشرة وهي آخر الآيات، ثم تذهل كل مرضعة عما أرضعت.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن لهيعة إلى عبد الله مرفوعا: "لا تلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلا حتى تطلع الشمس من مغربها، فيقول من لا خلاق له: ما نبالي إذا رد الله علينا ضوءها من حيث ما طلعت من مشرقها أو مغربها، قال: فيسمعون نداء من السماء: يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم إيمانكم ورفع عنكم العمل. ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة، وجفت الأقلام، وطويت الصحف فلا يقبل من أحد توبة ولا إيمان إلا من آمن من قبل ذلك، ولا يلد بعد ذلك المؤمن إلا مؤمنا، والكافر إلا كافرا، ويخر إبليس ساجدا. يقول لأعوانه: هذه الشمس قد طلعت من مغربها

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 348 ] وهو الوقت المعلوم، ولا عمل بعد اليوم، وتصير الشياطين ظاهرين في الأرض حتى يقول الرجل: هذا قريني الذي كان يغويني، الحمد لله الذي أخزاه وأراحني منه، فلا يزال إبليس ساجدا باكيا حتى تخرج الدابة فتقتله"
                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عباس مرفوعا: "إذا طلعت الشمس من مغربها تذهل الأمهات عن أولادها، ولا تقبل لأحد توبة إلا من كان محسنا في إيمانه، فإنه يكتب له بعد ذلك كل ما كان يكتب له قبل ذلك، ولو أن رجلا (ابتاع) فرسا لم يركب حتى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن تقوم الساعة".

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن المنذر ، عن الشعبي قالت عائشة رضي الله عنها: إذا خرج أول الآيات طرحت الأقلام وحبست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر العلماء أنه إنما لم ينفع نفسا إيمانها عند طلوع الشمس؛ لأنه خلص إلى قلوبهم ما يخمد به كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، ويصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت لانقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحالة لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت كما في الحديث: "فيها إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" أي بلغت روحه من حلقه وذلك وقت

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 349 ] المعاينة التي يرى فيها مقعده من النار أو من الجنة، فالمشاهدة لطلوع الشمس من مغربها مثله، وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له، مردودة ما عاش؛ لأن علمه بالله وبنبيه وبوعده قد صار ضرورة، فإن امتدت أيام الدنيا -كما بيناه في حديث عبد الله بن عمرو - إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان ولا يتحدثوا عنه إلا قليلا، فيصير الخبر عنهم خاصا وينقطع التواتر، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قيل: إن الحكمة في طلوعها من المغرب -فيما حكاه الثعلبي عن عبد العزيز بن يحيى الكلبي - أن إبراهيم - عليه السلام - قال لنمروذ: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر [البقرة: 258] وأن الملحدة والمنجمين عن آخرهم ينكرون وقوع ذلك ويقولون: هو غير كائن فيطلعها الله يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته، وأن الشمس في ملكه؛ إن شاء أطلعها من المشرق وإن شاء من المغرب، وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك والمنكرين بخبر الشارع؛ فأما المصدق لذلك فإنه تقبل توبتهم وينفعهم إيمانهم قبل ذلك. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يوضحه وهو قوله: لا يقبل من كافر عمل ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيرا يومئذ؛ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل منه، ومن كان مذنبا مؤمنا فتاب من الذنب قبل منه.

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنما لم يقبل وقت الطلوع؛ لأنه تكون صيحة يهلك فيها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 350 ] ذلك الوقت أو هلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القرطبي : إنما كان طلوعها مخصوصا بما ذكر في الحديث؛ لأنه أول تغيير هذا العالم العلوي الذي لم يشاهد فيه تغيير منذ خلقه إلى ذلك الوقت، وأما ما قبله من الآيات فقد شوهد ما يقرب من نوعه، فإذا كان ذلك وطبع على كل قلب بما فيه من كفر أو إيمان أخرج الله الدابة ليعرف ما في بواطنهم من كفر أو إيمان فتسمهم ليتعارفوا بذلك، فتقول هذا لهذا: يا مؤمن، وهذا لذاك: يا كافر.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنما لم ينفع الإيمان بعد ذلك؛ لأن بعده أول قيام الساعة، فإذا شوهد ذلك وعاش حصل الإيمان الضروري ولم ينفع الإيمان بالغيب الذي نحن مكلفونه. وقال مقاتل : لا ينفع نفسا إيمانها يعني نفسا كافرة، فمن كان لم يقبل منه عمله قبل ذلك فإنه لا يقبل منه بعده، ومن كان يقبل قبله [قبل]، منه بعد طلوعها، وقد سلف.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية