( وعمومه ) أي عموم ما خص بمبين    ( مراد تناولا ، لا حكما ) أي من جهة تناول اللفظ لأفراده ، لا من جهة الحكم . ( وقرينته لفظية وقد تنفك ) عنه . ( والعام الذي أريد به الخصوص . كلي استعمل في جزئي ومن ثم كان ) هذا ( مجازا ) لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي ، بخلاف ما قبله ( وقرينته عقلية لا تنفك ) عنه ومما يدل على الفرق بينهما : أن دلالة الأول أعم من دلالة الثاني . قال في شرح التحرير : لم يتعرض كثير من العلماء للفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص . وهو من مهمات هذا الباب . وفرق بينهما أبو حامد  بأن الذي أريد به الخصوص : ما كان المراد به أقل . وما ليس بمراد هو الأكثر . 
قال ابن هبيرة    : وليس كذلك العام المخصوص : لأن المراد به هو الأكثر ، وما ليس بمراد : هو الأقل . وفرق  الماوردي  بوجهين : أحدهما : هذا . والثاني : أن إرادة ما أريد به العموم ، ثم خص بتأخر أو تقارن . وقال ابن دقيق العيد    : يجب أن يتنبه للفرق بينهما . فالعام المخصوص أعم من العام الذي أريد به الخصوص    . ألا  [ ص: 363 ] ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهره من العموم ، ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ : كان عاما مخصوصا ، ولم يكن عاما أريد به الخصوص ؟ ويقال : إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج . وهذا متوجه إذا قصد العموم . وفرق بينه وبين أن لا يقصد الخصوص ، بخلاف ما إذا نطق باللفظ العام مريدا به بعض ما تناوله في هذا . انتهى . 
قال البرماوي    : وحاصل ما قرره : أن العام إذا قصر على بعضه ، له ثلاث حالات . الأولى : أن يراد به في الابتداء خاص ، فهذا هو المراد به خاص . والثانية : أن يراد به عام ، ثم يخرج منه بعضه ، فهذا نسخ . والثالثة : أن لا يقصد به خاص ولا عام في الابتداء ، ثم يخرج منه أمر يتبين بذلك أنه لم يرد به في الابتداء عمومه ، فهذا هو العام المخصوص . ولهذا كان التخصيص عندنا بيانا ، لا نسخا . إلا إن أخرج بعد دخول وقت العمل بالعام ، فيكون نسخا ، لأنه قد تبين أن العموم أريد به في الابتداء . انتهى . وفرق السبكي  ، فقال : العام المخصوص أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها ، لا من جهة الحكم ، والذي أريد به الخصوص لم يرد شموله لجميع الأفراد لا من جهة التناول ولا من جهة الحكم بل هو كلي استعمل في جزئي ، ولهذا كان مجازا قطعا ، لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي ، بخلاف العام المخصوص . وقال شيخ الإسلام البلقيني    : الفرق بينهما من أوجه : أحدها : أن قرينة المخصوص لفظية ، وقرينة الذي أريد به الخصوص عقلية . 
الثاني : أن قرينة المخصوص قد تنفك عنه ; وقرينة الذي أريد به الخصوص لا تنفك عنه ، قال ابن قاضي الجبل    : يجوز ورود العام والمراد به الخصوص ، خبرا كان أو أمرا . قال  أبو الخطاب    : وقد ذكر الإمام  أحمد  رحمه الله في قوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها    } قال : وأتت على أشياء لم تدمرها ، كمساكنهم والجبال ( والجواب ) من الشارع إن لم يكن مستقلا بالسؤال ، وهو المراد بقوله ( لا المستقل ) فهو ( تابع لسؤال ) في ( عمومه ) اتفاقا نحو { جواب النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب ، إذا يبس ؟ قيل : نعم . قال : فلا إذن   } 
وفي قول : ( و ) كذا في ( خصوصه ) يعني أن الجواب غير المستقل يتبع السؤال في  [ ص: 364 ] خصوصه أيضا في أحد قولي العلماء ، نحو قوله تعالى { هل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم    } وكحديث  أنس    { قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه ، أينحني له ؟ قال : لا . قال : أفيلزمه ويقبله ؟ قال : لا . قال : فيأخذه بيده ويصافحه ؟ قال : نعم   } قال الترمذي    : حديث حسن . 
قال  أبو الخطاب  في التمهيد : كقوله لغيره : تغد عندي ، فيقول لا . وقال  القاضي  وغيره : كقوله صلى الله عليه وسلم  لأبي بردة    {   . تجزيك ، ولا . تجزي أحدا بعدك   } أي في الأضحية . قال الآمدي    : فهذا وأمثاله وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال : لا يدل على التعميم في حق غيره ، كما قاله  الشافعي  ، إذ اللفظ لا عموم له . ولعل الحكم على ذلك الشخص لمعنى يختص به ، كتخصيص  أبي بردة  بقوله { ولا تجزئ أحدا بعدك   } ثم بتقدير تعميم المعنى فبالعلة لا بالنص . وقاله قبله أبو المعالي  ، لاحتمال معرفة حاله . فأجاب على ما عرف . وعلى هذا تجري أكثر الفتاوى من المفتين . قال ابن مفلح    : كذا قال . والقول الثاني للعلماء : إن الجواب غير المستقل لا يتبع السؤال في خصوصه ، إذ لو اختص به لما احتيج إلى تخصيصه . وهذا ظاهر كلام  الشافعي  أيضا في قوله " ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال : ينزل منزلة العموم في المقال ، ويحسن به الاستدلال " قال  المجد  في المسودة : وهذا ظاهر كلام الإمام  أحمد  رضي الله عنه ، لأنه احتج في مواضع كثيرة بمثل ذلك وكذلك أصحابنا . وقال  المجد  أيضا : وما سبق إنما يمنع قوة العموم لا ظهوره ، لأن الأصل عدم المعرفة لما لم يذكر . ومثله  الشافعي  رحمه الله { بقول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان  وقد أسلم على عشر نسوة : أمسك أربعا   } ولم يسأله : هل ورد العقد عليهن معا أو مرتبا ؟ فدل على عدم الفرق . وروي عن  الشافعي  عبارة أخرى ، وهي " حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال ، وسقط بها الاستدلال " فاختلفت أجوبة العلماء عن ذلك . فمنهم من قال : هذا مشكل ، ومنهم من قال : له قولان . 
وقال الأصفهاني    : يحمل الأول على قول يحال عليه العموم ، ويحمل الثاني على  [ ص: 365 ] فعل ، لأنه لا عموم له . واختاره شيخ الإسلام البلقيني  ، وابن دقيق العيد  في شرح الإلمام ، والسبكي  في باب ما يحرم من النكاح في شرح المنهاج . وقال القرافي    : الأول مع بعد الاحتمال ، والثاني مع قرب الاحتمال . ثم الاحتمال إن كان في دليل الحكم سقط الحكم والاستدلال ، كقوله في المحرم { لا تمسوه طيبا ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا   } . وقال أيضا : الأول إذا كان الاحتمال في محل الحكم كقصة غيلان  ، والثاني إذا كان الاحتمال في دليل الحكم . قال ابن مفلح    : كذا قال . وعند  أحمد   والشافعي  وأصحابهما : الحكم عام في كل محرم . ثم قال أصحابنا في ذلك : حكمه في واحد حكمه في مثله ، إلا أن يرد تخصيصه . ولهذا حكمه في شهداء أحد حكمه في سائر الشهداء . قال  القاضي  وغيره : اللفظ خاص ، والتعليل عام في كل محرم . وعند الحنفية والمالكية يختص بذلك المحرم ( و ) الجواب ( المستقل ) وهو الذي لو ورد ابتداء لأفاد العموم ( إن ساوى السؤال ) في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاما أو خاصا ( تابعه ) أي تابع الجواب السؤال ( فيما فيه ) أي في السؤال ( منهما ) أي من العموم والخصوص ، فالعموم نحو قوله صلى الله عليه وسلم حين { سئل عن الوضوء بماء البحر هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته   } والخصوص نحو قوله صلى الله عليه وسلم حين { سأله الأعرابي عن وطئه في نهار رمضان أعتق رقبة   } قال الغزالي    : هذا مراد  الشافعي  بالعبارة الأولى ( فإن كان الجواب أخص من السؤال اختص به ) أي الجواب ( السؤال ) كمن يسأل عن قتل النساء الكوافر ؟ فيقال له : اقتل المرتدات ، فيختص السؤال عن قتل النساء بالمرتدات منهن . ( وإن كان ) الجواب ( أعم ) من السؤال . 
مثاله : لما { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء بئر بضاعة  ؟ فقال الماء طهور لا ينجسه شيء   } ( أو ورد ) حكم ( عام على سبب خاص بلا سؤال ) ، كما روي " { أنه صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميتة لميمونة  ، فقال : أيما إهاب دبغ فقد طهر   } . ( اعتبر عمومه ) أي عموم الجواب في الصورة الأولى ، وعموم اللفظ الوارد على السبب الخاص في الثانية ، ولم يقتصر على سببه عند  أحمد   [ ص: 366 ]  والشافعي  وأكثر أصحابهما رضي الله عنهما وأكثر الحنفية والمالكية والأشعرية  ، لأن عدول المجيب عما سئل عنه ، أو عدول الشارع عما اقتضاه حال السبب الذي ورد العام عليه عن ذكره بخصوصه إلى العموم دليل على إرادته ، لأن الحجة في اللفظ ، وهو مقتضى العموم ، والسبب لا يصلح معارضا ، لجواز أن يكون المقصود عند ورود الجواب أو السبب : بيان القاعدة العامة لهذه الصورة وغيرها . قال في شرح التحرير : ولنا قول في مذهبنا ، وقاله جمع كثير : أنه يقتصر على سببه . واستدل للأول الذي هو الصحيح : أن الصحابة ومن بعدهم استدلوا على التعميم مع السبب الخاص ، ولم ينكر ، كآية اللعان . ونزلت في هلال بن أمية    . 
وهو في الصحيحين . وآية الظهار ، ونزلت في أوس بن الصامت    . رواه  أحمد   وأبو داود  وغيرهما . وقصة  عائشة  في الإفك في الصحيحين ، وغير ذلك . فكذا هنا . ولأن اللفظ عام بوضعه والاعتبار به بدليل لو كان أخص . والأصل عدم مانع . وقاس ذلك أصحابنا وغيرهم على الزمان والمكان ، مع أن المصلحة قد تختلف بهما . قال المخالف : لو عم جاز تخصيص السبب بالاجتهاد كغيره . ورد بأن السبب مراد قطعا بقرينة خارجية ، لورود الخطاب بيانا له ، وغيره ظاهر . ولهذا لو سألته امرأة من نسائه طلاقها ، فقال : نسائي طوالق : طلقت . ذكره  ابن عقيل  إجماعا وأنه لا يجوز تخصيصه . والأشهر عندنا : ولو استثناها بقلبه ، لكن يدين . قال ابن مفلح    : ويتوجه فيه خلاف . ولو استثنى غيرها لم تطلق ، على أنه منع في الإرشاد والمبهج والفصول المعتمر المحصر من التحلل مع أن سبب الآية في حصر الحديبية    . وكانوا معتمرين . وعن  أحمد  رحمه الله : أنه حمل ما في الصحيحين من حديث  أبي هريرة    { لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين   } على أمر الآخرة ، مع أن سببه أمر الدنيا . لكن يحتمل أنه لم يصح عنده سببه ، والأصح عن  أحمد    : أنه لا يصح اللعان على حمل . وقاله  أبو حنيفة    . وهو سبب آية اللعان ، واللعان عليه في الصحيحين . لكن ضعفه  أحمد    . ولهذا في الصحيحين { أنه لاعن بعد الوضع   } ثم يحتمل أنه علم وجوده بوحي ، فلا يكون اللعان  [ ص: 367 ] معلقا بشرط . وليس سبب الآية قذف حامل ولعانها . وفي الصحيحين عن  عائشة  رضي الله عنها { أن عتبة بن أبي وقاص  عهد إلى أخيه  سعد    : أن ابن وليدة زمعة  ابني ، فاقبضه إليك . فلما كان عام الفتح أخذه  سعد  وفيه فقال  سعد    : هذا يا رسول الله ، ابن أخي عتبة  ، عهد إلي أنه ابنه ، انظر إلى شبهه [ وقال عبد بن زمعة هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته فنظر ] . فرأى فيه شبها بينا بعتبة  ، فقال : هو لك يا عبد بن زمعة  ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر . واحتجبي منه يا  سودة بنت زمعة    . وكانت تحت النبي صلى الله عليه وسلم   } وفي لفظ  للبخاري    { هو أخوك يا عبد   } 
 ولأحمد   والنسائي  بإسناد جيد من حديث  عبد الله بن الزبير    { أن زمعة  كانت له جارية يطؤها ، وكانت تظن بآخر وفيه احتجبي منه يا سودة  ، فليس لك بأخ   } . زاد  أحمد    { أما الميراث فله   } " قالوا : لو عم لم ينقل السبب لعدم الفائدة . رد فائدته منع تخصيصه ، ومعرفة الأسباب . 
قالوا : لو قال : تغد عندي ، فحلف لا تغديت ، لم يعم ، ومثله نظائرها . رد بالمنع في الأصح عن  أحمد    . وإن سلم كقول  مالك  فللعرف ، ولدلالة السبب على النية ، فصار كمنوي . قالوا : لو عم لم يطابق الجواب السؤال . رد طابق وزاد ( وصورة السبب قطعية الدخول في العموم ) عند الأكثر ( فلا يخص باجتهاد ) فيتطرق التخصيص إلى ذلك العام ، إلا تلك الصورة ، فإنه لا يجوز إخراجها ، لكن السبكي  قال : إنما تكون صورة السبب قطعية إذا دل الدليل على دخولها وضعا تحت اللفظ العام . وإلا فقد ينازع فيه الخصم ، ويدعي أنه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب . فالمقطوع به إنما هو بيان حكمة السبب ، وهو حاصل مع كونه خارجا ، كما يحصل بدخوله . ولا دليل على تعيين واحد من الأمرين . فائدة ، ( قيل : ليس في القرآن عام لم يخص إلا قوله تعالى { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها    } وقوله تعالى { وهو بكل شيء عليم    } ) . 
				
						
						
