الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وفيه ) أي في القرآن ( ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ) عند جمهور العلماء . قال ابن عقيل في الواضح : ليس ببدع أن يكون فيه ما يتشابه لنؤمن بمتشابهه ونقف عنده . فيكون التكليف به هو الإيمان به جملة ، وترك البحث عن تفصيله . كما كتم الروح والساعة والآجال وغيرها من الغيوب ، [ ص: 208 ] وكلفنا التصديق بها دون أن يطلعنا على علمه . انتهى . وهذا مذهب سلف هذه الأمة . واختاره صاحب المحصول ، بناء على تكليف ما لا يطاق . قال البرماوي : حكى ابن برهان وجهين في أن كلام الله تعالى : هل يشتمل على ما لا يفهم معناه ؟ ثم قال : والحق التفصيل بين الخطاب الذي يتعلق به تكليف ، فلا يجوز أن يكون غير مفهوم المعنى ، وما لا يتعلق به تكليف فيجوز ( ويمتنع دوام ) ( إجمال ما فيه تكليف ) قال أبو المعالي ، والقشيري : ما فيه تكليف يمتنع دوام إجماله ، وإلا فلا . واختاره التاج السبكي والبرماوي ، وقال المجد في المسودة : ثم بحث أصحابنا يقتضي فهمه إجمالا لا تفصيلا .

وعن ابن عقيل : لا ، وأنه يتعين لا أدري ، كقول أكثر الصحابة والتابعين ، أو تأويله .

قال ابن مفلح : كذا قال ، مع قوله : إن المحققين قالوا : في " سميع بصير " يسكت عما به يسمع ويبصر ، أو تأويله بإدراكه ، وأما تأويله بما يوجب تناقضا أو تشبيها فزيغ . وقوله - يعني ابن عقيل - في قوله تعالى ( { وما يعلم تأويله إلا الله } ) أي كنه ذلك ( ويوقف ) في الأصح المختار ( على { إلا الله } لفظا ومعنى لا ) على { والراسخون في العلم } قال ابن قاضي الجبل : هذا قول عامة السلف والأعلام .

قال الخطابي : هو مذهب أكثر العلماء ، وروي معناه عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة . قال البغوي في تفسيره : هو قول الأكثرين منهم : أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين . واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، وخالف الآمدي وجمع ، منهم من أصحابنا : أبو البقاء في إعرابه . قال النووي في شرح مسلم : الراسخون يعلمون تأويله . قال ابن قاضي الجبل : هو قول عامة المتكلمين . قال الطوفي في شرحه ، قال المؤولة - وهم المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم - الوقف التام على قوله تعالى ( { والراسخون في العلم } ) وقيل : الخلاف في ذلك لفظي . فإن من قال : إن الراسخ في العلم يعلم تأويله ، أراد به أنه يعلم ظاهره لا حقيقته ، ومن قال : لا يعلم : أراد به لا يعلم [ ص: 209 ] حقيقته ، وإنما ذلك إلى الله تعالى . والحكمة في إنزال المتشابه : ابتلاء العقلاء . وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي والسهيلي : الوقف على { إلا الله } ويعلمه الراسخون ، وإنما امتنع العطف لمخالفة علم الله تعالى لعلم الراسخين ; لأن علمهم ضروري ونظري ، بخلاف علم الله تعالى . وقيل : بالوقف مطلقا ، فلا يجزم بواحد من هذه الأقوال لتعارض الأدلة . قاله القفال الشاشي ، واستدل من قال بالأول بسياق الآية في ذم مبتغي التأويل وقوله تعالى ( { آمنا به كل من عند ربنا } ) ولأن واو { والراسخون } للابتداء ، و " يقولون " خبره ; لأنها لو كانت عاطفة عاد ضمير " يقولون " إلى المجموع ، ويستحيل على الله ، وكان موضع " يقولون " : نصبا حالا ، ففيه اختصاص المعطوف بالحال ، قالوا : خص ضمير " يقولون " بالراسخين للدليل العقلي ، والمعطوف قد يختص بالحال مع عدم اللبس ، نظيره قوله تعالى ( { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون } ) فيها قولان وقوله تعالى ( { ويعقوب نافلة } ) قيل : حالا من يعقوب ; لأنها الزيادة . وقيل : منهما ; لأنها العطية . وقيل : هي مصدر كالعاقبة معا ، وعامله معنى وهبنا . ولنا أن الأصل عدم ذلك ، والأشهر خلافه . ولهذا في قراءة ابن مسعود " إن تأويله إلا عند الله " وفي قراءة أبي " ويقول الراسخون في العلم آمنا به " ومثله عن ابن عباس : لأنه كان يقرأ " وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون في العلم آمنا به " فهذا يدل على أن الواو للاستئناف ; لأن هذه الرواية - وإن لم تثبت بها القراءة - فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن ، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه . قال الأسيوطي : قال الموفق في الآية قرائن تدل على أن الله تعالى منفرد بعلم تأويل المتشابه . قال الفراء وأبو عبيد : الله هو المنفرد ، قال في الروضة ، فإن قيل : كيف يخاطب الله تعالى الخلق بما لا يعقلونه ، أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله ؟ قلنا : يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ، ليختبر طاعتهم كما قال تعالى ( { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } ) ( [ ص: 210 ] { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول } ) - الآية ( { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ) وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة ، مع أنه لا يعلم معناها . والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية