كقول الشاعر :
أشاب الصغير وأفنى الكب ير كر الغداة ومر العشي
فلفظ " الإشابة " حقيقة في مدلوله ، وهو تبييض الشعر ، والزمان الذي هو مرور الليل والنهار حقيقة في مدلوله أيضا ، لكن إسناد الإشابة إلى الزمان مجاز ، إذ المشيب للناس في الحقيقة هو الله تعالى . فهذا مجاز في الإسناد ، لا في نفس مدلولات الألفاظ .ومنه قوله تعالى ( { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } ) ( { إنهن أضللن كثيرا من الناس } ) فكل من طرفي الإسناد حقيقة ، وإنما المجاز في إسناد الزيادة إلى الآيات ، والإضلال إلى الأصنام وكذا ( { ينزع عنهما لباسهما } ) والفاعل لذلك في الكل هو الله سبحانه وتعالى ( و ) يكون أي في حالة واحدة . كقول بعضهم : " أحياني اكتحالي بطلعتك " إذ حقيقته : سرتني رؤيتك ، لكن أطلق لفظ " الإحياء " على " السرور " مجازا إفراديا . لأن الحياة شرط صحة السرور وهو من آثارها وكذا لفظ " الاكتحال " على الرؤية مجاز إفرادي ; لأن الاكتحال : جعل العين مشتملة على الكحل ، كما أن الرؤية : جعل العين مشتملة على صورة المرئي . المجاز ( فيهما ) أي في المفرد وفي الإسناد ( معا )
فلفظ " الإحياء والاكتحال " حقيقة في مدلولهما ، وهو سلوك الروح في الجسد ، ووضع الكحل في العين ، واستعمال لفظ " الإحياء [ ص: 59 ] والاكتحال " في السرور والرؤية مجاز إفرادي ، وإسناد الإحياء إلى الاكتحال مجاز تركيبي . لأن لفظ " الإحياء " لم يوضع ليسند إلى الاكتحال ، بل إلى الله تعالى ; لأن الإحياء والإماتة الحقيقيتين من خواص قدرته سبحانه وتعالى .
( و ) يكون تارة بالتبعية . كصلى بمعنى دعا ، تبعا لإطلاق الصلاة مجازا على الدعاء ، وتارة بدون التبعية ، كإطلاق الفعل الماضي بمعنى الاستقبال نحو ( { المجاز في ( فعل ) ونفخ في الصور } ) و ( { أتى أمر الله } ) و ( { ونادى أصحاب الجنة } ) أي : وينفخ ، ويأتي ، وينادي وإطلاق المضارع بمعنى الماضي ، نحو ( { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } ) ، و ( { فلم تقتلون أنبياء الله } ) أي ما تلته ، ولم قتلتموهم ؟ والتعبير بالخبر عن الأمر نحو ( { والوالدات يرضعن } ) وعكسه [ نحو ] ( { فليمدد له الرحمن مدا } ) [ وقوله صلى الله عليه وسلم ] { } . فليتبوأ مقعده من النار
والتعبير بالخبر عن النهي نحو ( { لا يمسه إلا المطهرون } ) قال علماء البيان : هو أبلغ من صريح الأمر والنهي ; لأن المتكلم لشدة تأكد طلبه نزل المطلوب منزلة الواقع لا محالة ( و ) يكون المجاز في ( مشتق ) كاسم الفاعل واسم المفعول ، والصفة المشبهة ونحوها مما يشتق من المصدر ، كإطلاق " مصل " في الشرع على الداعي ( و ) يكون فإنه قد تجوز ب " هل " عن الأمر في قوله سبحانه وتعالى ( { المجاز أيضا في ( حرف ) فهل أنتم مسلمون } ) { { فهل أنتم منتهون } } أي فأسلموا وانتهوا ، وعن النفي ، كقوله تعالى ( { فهل ترى لهم من باقية } ) أي ما ترى لهم من باقية ، وعن التقرير كقوله تعالى ( { هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم } ) .
وقيل : لا يجري المجاز في الحروف إلا بالتبعية ، كوقوع المجاز في متعلقه ( ويحتج به ) أي بالمجاز ، حكاه بعضهم إجماعا . لأنه يفيد المعنى من طريق الوضع ، كالحقيقة ، ألا ترى إلى قوله تعالى ( { أو جاء أحد منكم من الغائط } ) فإنه يفيد المعنى وإن كان مجازا ، وكذا قوله تعالى ( { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ) ومن المعلوم أن المراد : الأعين التي في الوجوه وقد احتج رضي الله تعالى عنه بهذه الآية على وجوب [ ص: 60 ] النظر يوم القيامة . وأيضا : فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب ، كقول الإنسان : لزيد علي درهم ، فإنه مجاز وهو أسبق إلى الفهم من قوله : يلزمني لزيد درهم ( ولا يقاس عليه ) أي على المجاز . لأن علاقته ليست مطردة ( ويستلزم ) المجاز ( الحقيقة ) لأنه فرع والحقيقة أصل ، ومتى وجد الفرع وجد الأصل . الإمام أحمد
وأيضا : فإنه لو لم يستلزمها لعري الوضع عن الفائدة ( ولا تستلزمه ) أي ولا تستلزم الحقيقة المجاز ، لأن اللغة طافحة بحقائق لا مجازات لها ( ولفظاهما ) أي لفظ حقيقة ، ولفظ مجاز ( حقيقتان عرفا ) أي في اصطلاح أهل العرف ; لأن واضع اللغة لم يستعملهما فيما استعملهما فيه أهل العرف و ( مجازان لغة ) أي في اللغة ، لأنهما منقولان منها . وقد تقدم كيفية نقلهما ( وهما ) أي وكون اللفظ حقيقة أو مجازا ( من عوارض الألفاظ ) . قال الشيخ تقي الدين : وهذا التقسيم حادث بعد القرون الثلاثة ، يعني تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز .
( وليس منهما ) أي من الحقيقة ، ولا من المجاز ( لفظ قبل استعماله ) لعدم ركن تصريفهما ، وهو الاستعمال ; لأن الاستعمال جزء من مفهوم كل منهما ( ولا ) من الحقيقة والمجاز ( علم متجدد ) قال في شرح التحرير : اختاره الأكثر ، لأن الأعلام وضعت للفرق بين ذات وذات . فلو تجوز فيها ، لبطل هذا الغرض . وأيضا ، فنقلها إلى مسمى آخر إنما هو بوضع مستقل لا لعلاقة .