( خاتمة ) في تعدد الاعتراضات وترتيبها وما في معنى ذلك ( ترد الأسئلة على قياس الدلالة إلا ما تعلق بمناسبة الجامع ) ; لأنه ليس بعلة فيه ( وكذا قياس في معنى الأصل ) ، ( ولا يرد عليه ) أيضا ( ما تعلق بنفس الجامع ) لعدم ذكره فيه . قال ذلك ابن مفلح وتبعه في التحرير ( ومنع ) بالبناء للمفعول عند الأكثر ( مرتبة ) ; لأن في تعددها تسليما للمقدم ; لأن المعترض إذا طالبه بتأثير الوصف بعد أن منع وجود الوصف فقد نزل عن المنع وسلم وجود الوصف الذي هو المقدم ; لأنه لو أصر على منع وجود الوصف لما طالبه بتأثير الوصف ; لأن تأثير ما لا وجود له محال ، فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير ، فيتعين الأخير للورود فقط ، ولهذا قال ( تعدد اعتراضات ) على المستدل وغيره من أصحابنا ، القاضي أبو يعلى : لو أورد النقض ثم منع وجود العلة : لم يقبل ، لتسليمه للمتقدم ، وعند والقاضي أبو الطيب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والفخر إسماعيل والآمدي ومن وافقهم : لا يمنع التعدد في المرتبة ; لأن تسليم المتقدم تسليم تقديري ، إذ معناه : لو سلم وجود الوصف فلا نسلم تأثيره . والتسليم التقديري : لا ينافي المنع ، بخلاف التسليم تحقيقا . قال وابن الحاجب الهندي عن هذا القول : وهو الحق ، وعليه العمل في المصنفات ، وإذا كان كذلك فتترتب الأسئلة ، فيقدم الاستفسار ثم فساد الاعتبار ، ثم الوضع ، ثم ما تعلق بالأصل ، ثم العلة ، ثم الفرع .
ويقدم النقض على المعارضة ، وأوجب ابن المني ترتيب الأسئلة ، فاختار فساد الوضع ، ثم الاعتبار ، ثم الاستفسار ، ثم المنع ، [ ص: 576 ] ثم المطالبة ، وهو منع العلة في الأصل ، ثم الفرق ، ثم النقض ، ثم القول بالموجب ، ثم القلب ، ثم رد التقسيم إلى الاستفسار ، أو الفرق ، وإنما قدم الاستفسار : لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يرد عليه . ثم فساد الاعتبار ; لأنه نظر في فساد القياس من حيث الجملة ، وهو قبل النظر في تفصيله . ثم فساد الوضع ; لأنه أخص من فساد الاعتبار ، والنظر في الأعم مقدم على النظر في الأخص .
ثم ما يتعلق بالأصل على ما يتعلق بالعلة ; لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل ، ثم ما يتعلق بالعلة على ما يتعلق بالفرع ; لأن الفرع يتوقف على العلة ، ويقدم النقض على المعارضة ; لأن النقض يورد لإبطال العلة ، والمعارضة تورد لاستقلالها ، والعلة مقدمة على استقلالها ( و ) لا يمنع تعدد اعتراضات ( غير مرتبة ، ولو ) كانت ( من أجناس ) قال الطوفي : وترتيب الأسئلة - وهو جعل كل سؤال في رتبته على وجه لا يفضي بالتعرض إلى المنع بعد التسليم - أولى اتفاقا ; لأن المنع بعد التسليم قبيح ، فأقل أحواله : أن يكون التحرز منه أولى . فمنهم من أوجبه نفيا للقبح المذكور ، ونفي القبح واجب ، ومنهم من لم يوجبه ، نظرا إلى أن كل سؤال مستقل بنفسه ، وجوابه مرتبط به . فلا فرق إذا بين تقدمه وتأخره . ا هـ .
( و ) حيث جاز التعدد فإنه ( يكفي جواب آخرها ) قال ابن عقيل وابن المنى وجمهور الجدليين : إنه لا يطالبه بطرد دليل إلا بعد تسليم ما ادعاه من دلالته فلا ينقضه من سلمه فلا يقبل المنع بعد التسليم . ا هـ . ويفرق بين أسئلة الجدل وأسئلة الاسترشاد ، لا الغلبة والاستزلال ، والواجب رد الجميع إلى ما دل عليه كتاب أو سنة ; وإلا فلهم من الحيل والاصطلاح الفاسد أوضاع ، كما للفقهاء والحكام في الجدل الحكمي أوضاع ، وضابط المنع في الدليل عند أهل الجدل : إما أن يكون لمقدمة من مقدماته قبل التمام أو بعده .
والأول : إما أن يكون مجردا عن المستند ، أو مع المستند ، وهو المناقضة ، فهي منع مقدمة من الدليل ، سواء ذكر معها مستند ، أو لا . قال الجدليون : ومستند المنع هو ما يكون المنع مبنيا عليه ، نحو : لا نسلم كذا ، أو لم لا يكون كذا ، أو لا نسلم لزوم كذا ؟ وإنما يلزم هذا أن لو كان كذا ، ثم [ ص: 577 ] إن احتج لانتفاء المقدمة ، فيسمى عندهم الغصب ، أي غصب منصب التعليل ، وهو غير مسموع عند النظار ، لاستلزامه الخبط في البحث ، نعم يتوجه ذلك من المعترض بعد إقامة المستدل الدليل ، على تلك المقدمة .
وأما الثاني : وهو المنع بعد تمامه ، فإما أن يكون مع منع الدليل بناء على تخلف حكمه ، فيسمى النقض الإجمالي ; لأن النقض التفصيلي : هو تخلف الحكم عن الدليل للقدح في مقدمة معينة من مقدماته ، بخلاف الإجمالي ، فإنه تخلف الحكم عن الدليل بالقدح في مقدمة من مقدماته لا على التعيين ، وإما أن يكون مع تسليم الدليل والاستدلال بما ينافي ثبوت المدلول فهو المعارضة فهي تسليم للدليل فلا يسمع منه بعدها منع ، فضلا عن سؤال الاستفسار .
فيقول المعترض : ما ذكرت من الدليل - وإن دل على ما تدعيه - فعندي ما ينفيه ، أو يدل على نقيضه . ويبينه بطريقه . فهو ينقلب مستدلا ، فلهذا لم يقبله بعضهم ; لما فيه من انقلاب دست المناظرة ، إذ يصير المستدل معترضا ; والمعترض مستدلا ، لكن الصحيح القبول : لأن ذلك بناء بالعرض ، هدم بالذات ، فالمستدل مدع بالذات ، معترض بالعرض ، والمعترض بالعكس ، فصارا كالمتخالفين ، مثاله : المسح ركن في الوضوء ، فيسن تثليثه كالوجه ، فيعارضه بأنه مسح ، فلا يسن تثليثه ، كالمسح على الخفين ، نعم على المعلل دفع الاعتراض عنه بدليل ، ولا يكفيه المنع المجرد ، فإن ذكر دليله ومنع ثانيا ، فكما سبق ، وهكذا حتى ينتهي الأمر : إما إلى الإفحام ، أو الإلزام ، فالإفحام عندهم : انقطاع المستدل بالمنع أو بالمعارضة ، على ما يأتي بماذا يحصل الانقطاع . والإلزام : انتهاء دليل المستدل إلى مقدمات ضرورية أو يقينية مشهورة يلزم المعترض الاعتراف بها ، ولا يمكنه الجحد ، فينقطع بذلك ، فإذا الإلزام من المستدل للمعترض ، والإفحام من المعترض للمستدل .