( و ) أما ( فهو ( تقابل دليلين ولو عامين ) في الأصح ( على سبيل الممانعة ) وذلك إذا كان أحد الدليلين : يدل على الجواز ، والدليل الآخر : يدل على المنع . فدليل الجواز : يمنع التحريم ، ودليل التحريم : يمنع الجواز ، فكل منهما مقابل للآخر ، ومعارض له ، ومانع له ، وذكر بعض أصحابنا عن قوم : منع تعارض عمومين بلا مرجح ، وقد خص الإمام التعارض ) رضي الله تعالى عنه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح والعصر بقوله صلى الله عليه وسلم { أحمد } وذكر من نام عن صلاة [ ص: 634 ] أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وأصحابه القاضي والشافعية تعارضهما ; لأن كلا منهما عام من وجه وخاص من وجه . والموفق
( و ) أما ( التعادل ) فهو ( التساوي ) ، ( ولكن تعادل ) دليلين ( قطعيين محال ) اتفاقا . سواء كانا عقليين أو نقليين ، أو أحدهما عقليا ، والآخر نقليا . إذ لو فرض ذلك لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما .
وترجيح أحدهما على الآخر محال ، فلا مدخل للترجيح في الأدلة القطعية ; لأن الترجيح فرع التعارض ، ولا تعارض فيها ، فلا ترجيح ( والمتأخر ) منهما ( ناسخ ) للمتقدم إن علم التاريخ بالقطع ( ولو ) كان الدليلان ( آحادا ) على الأصح ; لأنه انضم إلى ذلك : أن الأصل فيه الدوام والاستمرار . ( ومثله ) أي ومثل القطعيين في عدم التعارض ( قطعي ، وظني ) لأنه لا تعادل بينهما ولا تعارض ، لانتفاء الظن ; لأنه يستحيل وجود ظن في مقابلة يقين ، فالقطعي هو المعمول به ، والظن لغو ، ولذلك لا يتعارض حكم مجمع عليه مع حكم آخر ليس مجمعا عليه .
( ويعمل بالقطعي ) دون الظني ( وكذا ) دليلان ( ظنيان ) في عدم التعارض عند الإمام رضي الله تعالى عنه وأصحابه وأكثر الشافعية أحمد والكرخي والسرخسي وحكاه الإسفراييني عن أصحابه ، وحكاه عن الفقهاء ( فيجمع بينهما ) إن أمكن بأن علم التاريخ ، وكان أحدهما عاما ، والآخر خاصا . أو أحدهما مطلقا ، والآخر مقيدا ، ونحو ذلك ، حتى لو كان أحد الدليلين من السنة والآخر من الكتاب على أصح الأقوال ، وقيل : يقدم الكتاب على السنة ; لحديث ابن عقيل المشتمل على أنه { معاذ } . رواه يقضي بكتاب الله ، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأقره عليه وغيره ، وقيل : تقدم السنة على الكتاب لقوله تعالى " لتبين للناس ما نزل إليهم " وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البحر { أبو داود } رواه هو الطهور ماؤه الحل ميتته وغيره ، مع قوله تعالى وتقدس { أبو داود قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } فكل من الآية والحديث : يتناول خنزير البحر ، فيتعارض عموم الكتاب والسنة في خنزير البحر فقدم بعضهم الكتاب فحرمه ، وقال به من أصحابنا أبو علي النجاد [ ص: 635 ] وبعضهم قدم السنة فأحله ، وهو ظاهر كلام ، وعليه جمهور أصحابه . أحمد
( فإن تعذر ) الجمع بينهما ( وعلم التاريخ ) بأن علم السابق منهما ( فالثاني ناسخ ) للأول ( إن قبله ) أي قبل النسخ ( وإن اقترنا خير ) المجتهد في العمل ، والإفتاء بأيهما شاء ( وإن جهل ) التاريخ ( وقبله ) أي : قبل الدليل النسخ ( رجع إلى غيرهما ) أي : إلى العمل بغيرهما إن أمكن ( وإلا ) أي : وإن لم يمكن ( اجتهد في الترجيح ) ، ( و ) متى لم يمكنه ، بأن اجتهد في الترجيح ، ولم يظهر له فيها شيء ، فإنه ( يقف ) عن العمل بواحد منهما ( إلى أن يعلمه ) وقال الشيخ تقي الدين : إن عجز عن الترجيح ، أو تعذر : قلد عالما ، وهذا كله على عدم التعادل في الظنيين ، وعلى القول الثاني في أصل المسألة ، وهو جواز تعادلها . وبه قال القاضي والأكثر من غير أصحابنا : أن المجتهد يخير في العمل بما شاء منهما ، كتخير أحد أصناف الكفارة عند الإخراج ، ومن هنا جاز للعامي أن يستفتي من شاء من المفتين ، ويعمل بقوله . وابن عقيل
وحيث قلنا بالتخيير - على القول بالتعادل أو بعدمه - فلا يعمل ولا يفتى إلا بواحد في الأصح . قال : وليس له تخيير المستفتي والخصوم ، ولا الحكم في وقت بحكم ، وفي وقت بحكم آخر ، بل يلزم أحد القولين . قال : وهل يتعين أحد الأقوال بالشروع فيه كالكفارة ، أو بالتزامه كالنذر ؟ لهم فيه قولان . انتهى . واحتج من منع التعادل في الأمارتين في نفس الأمر مطلقا بأنه لو وقع ، فإما أن يعمل بهما ، وهو جمع بين المتنافيين ، أو لا يعمل بواحد منهما ، فيكون وضعهما عبثا ، وهو محال على الله تعالى ، أو يعمل بأحدهما على التعيين ، وهو ترجيح من غير مرجح ، أو لا على التعيين ، بل على التخيير ، والتخيير بين المباح وغيره : يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها ، لأنه لما جاز له الفعل ، والترك كان هذا معنى الإباحة ، فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها ، واحتج من جوز تعادل الأمارتين في نفس الأمر بالقياس على جواز تعادلهما في الذهن ، وبأنه لا يلزم من فرضه محال . وقال الباقلاني العز بن عبد السلام في قواعده : لا يتصور في الظنون تعارض ، كما لا يتصور في العلوم . إنما يقع التعارض بين أسباب الظنون ، فإذا تعارضت : فإن حصل الشك لم يحكم بشيء ، وإن [ ص: 636 ] وجد ظن في أحد الطرفين حكمنا به ; لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه . وإن كان كل منهما مكذبا للآخر تساقطا ، وإن لم يكذب كل واحد منهما صاحبه عمل به حسب الإمكان ، كدابة عليها راكبان : يحكم لهما بها ; لأن كلا من اليدين لا تكذب الأخرى . انتهى . قال البرماوي : وهو نفيس ; لأن الظن هو الطرف الراجح ، ولو عورض بطرف آخر راجح : لزم أن يكون كل واحد منهما راجحا مرجوحا وهو محال .