. فصل في تحريم . الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول
قال الله : { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } فقسم الأمر إلى [ ص: 38 ] أمرين لا ثالث لهما ، إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به ، وإما اتباع الهوى ، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى .
وقال تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } فقسم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله ، وإلى الهوى وهو ما خالفه .
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } فقسم الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه عليها وأوحى إليه العمل بها وأمر الأمة بها وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون ; فأمر بالأول ، ونهى عن الثاني .
وقال تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } فأمر باتباع المنزل منه خاصة : واعلم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله ، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا ، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه ، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا ، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول ; إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول ، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } وقال : { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق } وقال في ولاة الأمور : { إنما الطاعة في المعروف } . من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة
وقد { أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها : إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها } مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم ، وظنا أن ذلك واجب عليهم ، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من [ ص: 39 ] دينه إرادة خلافه ، فقصروا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبت وتبين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا ، فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به ورسوله ؟ ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل وأحسن تأويلا في العاقبة .
[ لم يختلف الصحابة في مسائل الصفات ] ؟ .
وقد تضمن هذا أمورا : منها أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان ، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام ، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال ، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة ، من أولهم إلى آخرهم ، لم يسوموها تأويلا ، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ، ولا ضربوا لها أمثالا ، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها ، بل تلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالإيمان والتعظيم ، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا ، وأجروها على سنن واحد ، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين ، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين ، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه .
والمقصود أن أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم بقوله : { فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه .