فصل .
[ ] تأويل ما روي عن الصحابة من الأخذ بالرأي
قال أهل الرأي : وهؤلاء الصحابة ومن بعدهم من التابعين والأئمة - وإن ذموا الرأي ، وحذروا منه ، ونهوا عن الفتيا والقضاء به ، وأخرجوه من جملة العلم - فقد روي عن كثير منهم الفتيا والقضاء به ، والدلالة عليه ، والاستدلال به ، كقول في المفوضة : أقول فيها برأيي ، وقول عبد الله بن مسعود لكاتبه : قل هذا ما رأى عمر بن الخطاب ، وقول عمر بن الخطاب في الأمر بإفراد العمرة عن الحج : إنما هو رأي رأيته ، وقول عثمان بن عفان في أمهات الأولاد : اتفق رأيي ورأي علي على أن لا يبعن . عمر
وفي كتاب إلى عمر بن الخطاب : إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ، ولا تلتفت إلى غيره ، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس ، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك ، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم ، وإن شئت أن تتأخر فتأخر ، وما أرى التأخر إلا خيرا لك ، ذكره شريح عن سفيان الثوري عن الشيباني الشعبي عن أن شريح كتب إليه . عمر
[ طريقة أبي بكر في الحكم على ما يرد عليهما ] وعمر
وقال أبو عبيد في كتاب القضاء : ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن قال : كان ميمون بن مهران إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به ، فإن أعياه ذلك سأل الناس : هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء ؟ فربما قام إليه القوم فيقولون : قضى فيه بكذا وكذا ، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به ، وكان أبو بكر الصديق يفعل ذلك ، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل : هل كان عمر أبو بكر قضى فيه بقضاء ؟ [ ص: 50 ] فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به ، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به .
[ طريقة ] ابن مسعود
وقال أبو عبيد : ثنا عن أبو معاوية عن الأعمش عمارة عن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن قال : أكثروا عليه ذات يوم فقال : إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ، ولسنا هناك ، ثم إن الله بلغنا ما ترون ، فمن عرض عليه قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ، ولا يقل : إني أرى ، وإني أخاف ; فإن الحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك مشتبهات ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك . ابن مسعود
وقال محمد بن جرير الطبري : حدثني ، أنا يعقوب بن إبراهيم ، أنا هشيم عن سيار الشعبي قال : لما بعث عمر على قضاء شريحا الكوفة قال له : انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك .
[ من قياس الصحابة ]
وفي كتاب إلى عمر أبي موسى : اعرف الأشباه والأمثال ، وقس الأمور وقايس علي بن أبي طالب في المكاتب ، وقايسه في الجد والإخوة ; فشبهه وزيد بن ثابت بسيل انشعبت منه شعبة ، ثم انشعبت من الشعبة شعبتان ، وقايسه علي على شجرة انشعب منها غصن ، وانشعب من الغصن غصنان ، وقولهما في الجد إنه لا يحجب الإخوة ، وقاس زيد الأضراس بالأصابع ، وقال : أعتبرها بها ; وسئل ابن عباس عن مسيره إلى صفين : هل كان بعهد عهده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رآه ؟ قال : بل رأي رأيته . علي
وقال وقد سئل عن المفوضة : أقول برأيي ، فإن يكن ثوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريء . عبد الله بن مسعود
[ حال ] ابن مسعود
وقال ابن أبي خيثمة : ثنا أبي ثنا عن محمد بن خازم عن الأعمش عن أبيه عن القاسم بن عبد الرحمن قال : من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن جاء أمر ليس في [ ص: 51 ] كتاب الله ولم يقض فيه نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه ، فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي . عبد الله بن مسعود
[ حال ] ابن عباس
وذكر عن سفيان بن عيينة عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به ، وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عن ابن عباس أبي بكر قال به ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن وعمر أبي بكر اجتهد رأيه . وعمر
[ حال أبي بن كعب ]
وقال ابن أبي خيثمة : حدثني أبي ثنا عن عبد الرحمن بن مهدي سفيان عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي عن قال : سألت مسروق أبي بن كعب عن شيء فقال : أكان هذا ؟ قلت : لا ، قال : فأجمنا حتى يكون ، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا .
[ ] جملة من أخذ الصحابة بالرأي
قال : وروينا عن أبو عمر بن عبد البر أنه أرسل إلى ابن عباس : أفي كتاب الله ثلث ما بقي ؟ فقال : أنا أقول برأيي وتقول برأيك . زيد بن ثابت
وعن أنه سئل عن شيء فعله : أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا أو شيء رأيته ؟ قال : بل شيء رأيته . ابن عمر
وعن أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال : هذه من كيسي ، ذكره أبي هريرة عن ابن وهب عن سليمان بن بلال كثير بن زيد عن وليد بن رباح عن . أبي هريرة
وكان يقول : إياكم وفراسة العلماء ، احذروا أن يشهدوا عليكم شهادة تكبكم على وجوهكم في النار ، فوالله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم . أبو الدرداء
قلت : وأصل هذا في الترمذي مرفوعا : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } } [ ص: 52 ] اتقوا فراسة المؤمن ; فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ {
وقال أبو عمر : ثنا ثنا عبد الوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ محمد بن عبد السلام الخشني ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح ثنا سليمان بن بزيع الإسكندراني ثنا عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب ، قال : { علي } وهذا غريب جدا من حديث قلت : يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ، ولم تمض فيه منك سنة ، قال : اجمعوا له العالمين ، أو قال العابدين ، من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ، ولا تقضوا فيه برأي واحد ، مالك وإبراهيم البرقي وسليمان ليسا ممن يحتج بهما .
وقال عمر لعلي وزيد : لولا رأيكما لاجتمع رأيي ورأي أبي بكر ، كيف يكون ابني ولا أكون أباه ؟ يعني الجد .
وعن أنه لقي رجلا فقال : ما صنعت ؟ قال : قضى عمر علي وزيد بكذا ، قال : لو كنت أنا لقضيت بكذا ، قال : فما منعك والأمر إليك ؟ قال : لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت ، ولكني أردك إلى رأي ، والرأي مشترك ، فلم ينقض ما قال علي وزيد .
وذكر الإمام عن أحمد أنه قال : إن الله اطلع في قلوب العباد فرأى قلب عبد الله بن مسعود محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاختاره لرسالته . ثم اطلع في قلوب العباد بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته ، فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح .
وقال عن ابن وهب : إن ابن لهيعة استعمل عمر بن عبد العزيز عروة بن محمد السعدي على اليمن ، وكان من صالحي عمال ، وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء ، فكتب إليه عمر : لعمري ما أنا بالنشيط على الفتيا ما وجدت منها بدا ، وما جعلتك إلا لتكفيني ، وقد حملتك ذلك ، فاقض فيه برأيك . عمر
وقال : أخبرني محمد بن سعد ثنا روح بن عبادة عن حماد بن سلمة أن الجريري قال أبا سلمة بن عبد الرحمن للحسن : أرأيت ما تفتي به الناس ، أشيء سمعته أم برأيك ؟ فقال الحسن : لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه ، ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم .
وقال : من كان عالما بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد برأيه فيما يبتلى به ، ويقضي [ ص: 53 ] به ، ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهي عنه ، فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك ، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به . محمد بن الحسن