[ ص: 189 ] ] الفائدة الخامسة والخمسون : إذا لا يجوز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي ، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه ، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديما وحديثا . سئل عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه
قال : حدثني أبو حاتم الرازي يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي : الأصل قرآن أو سنة ، فإن لم يكن فقياس عليهما ، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو المنتهى والإجماع أكبر من الخبر الفرد ، والحديث على ظاهره ، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به ، فإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها ، وليس المنقطع بشيء ، ما عدا منقطع محمد بن إدريس الشافعي ، ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال لأصل : لم ؟ وكيف ؟ وإنما يقال للفرع : لم ؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة ، رواه سعيد بن المسيب الأصم عن ابن أبي حاتم .
وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية " : ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل ، وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقد اتباع سلف الأمة ; فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة ، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها ، وهم صفوة الإسلام ، والمستقلون بأعباء الشريعة ، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين لهم على الإضراب عن التأويل ، كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع ، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى الرب تعالى .
وعند إمام القراء وسيدهم الوقوف على قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } من العزائم ثم الابتداء بقوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } .
ومما استحسن من كلام أنه سئل عن قوله تعالى : { مالك الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به [ ص: 190 ] واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله : { لما خلقت بيدي } وقوله : { ويبقى وجه ربك } وقوله : { تجري بأعيننا } وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا ، انتهى كلامه .
وقال : الصواب للخلف سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل ، وما قاله الله ورسوله ، بلا بحث وتفتيش . أبو حامد الغزالي
وقال في كتاب التفرقة : الحق الاتباع والكف عن تغيير الظاهر رأسا ، والحذر عن اتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة ، وحسم باب السؤال رأسا ، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث ، إلى أن قال : ومن الناس من يبادر إلى التأويل ظنا لا قطعا ، فإن كان فتح هذا الباب والتصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بدع صاحبه ، وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظواهر بغير برهان قاطع .
وقال أيضا : كل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور أن يقوم على خلافه برهان فمخالفته تكذيب محض ، وما تطرق إليه احتمال تأويل ولو بمجاز بعيد ، فإن كان برهانه قاطعا وجب القول به ، وإن كان البرهان يفيد ظنا غالبا ولا يعظم ضرره في الدين فهو بدعة ، وإن عظم ضرره في الدين فهو كفر .
قال : ولم تجر عادة السلف بهذه المجادلات ، بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ، ويشتغل بالبحث والسؤال .
وقال أيضا : الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف ، والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها .
قال : وقال شيخنا : يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك ، انتهى . أبو المعالي
وقد اتفقت الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله ، وكلام الإمام ومذهبه فيهم معروف عند جميع أصحابه ، وهو أنهم يضربون ويطاف بهم في قبائلهم وعشائرهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام . الشافعي
وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه ، وقال : لأن يبتلى العبد [ ص: 191 ] بكل شيء نهي عنه غير الكفر أيسر من أن يبتلى بالكلام ، وقال لحفص الفرد : أنا أخالفك في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله ، أنا أقول لا إله إلا الله الذي يرى في الآخرة والذي كلم موسى تكليما ، وأنت تقول : لا إله إلا الله الذي لا يرى في الآخرة ولا يتكلم .
وقال : ذكر البيهقي الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن علية فقال : أنا مخالف له في كل شيء ، وفي قوله لا إله إلا الله ، لست أقول كما يقول ، أنا أقول : لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب ، وذاك يقول : لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب .
وقال في أول خطبة رسالته : الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه ، وفوق ما يصفه به الواصفون من خلقه ، وهذا تصريح بأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه - تعالى ، وأنه يتعالى ويتنزه عما يصفه به المتكلمون وغيرهم مما لم يصف به نفسه .
وقال أبو نصر أحمد بن محمد بن خالد السجزي : سمعت أبي يقول : قلت لأبي العباس بن سريج : ما التوحيد ؟ فقال : توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام ، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك .
وقال بعض أهل العلم : كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية ؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم { ولكم الويل مما تصفون } قال الحسن : هي والله لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة ، وهل يأمن أن يتناوله قوله تعالى : { وكذلك نجزي المفترين } قال : هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة ، وقد نزه - سبحانه - نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلا المرسلين فإنهم إنما يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به ، فقال تعالى : { ابن عيينة سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين } وقال تعالى : { سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين } ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ، ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله ، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي ، وجعلوها عيارا على كلام الله ورسوله ، ولو علموا أي باب شر فتحوا [ ص: 192 ] على الأمة بالتأويلات الفاسدة ، وأي بناء للإسلام هدموا بها ، وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك ، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذرا له فيما تأوله هو ، وقال : ما الذي حرم علي التأويل وأباحه لكم ؟ فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد ، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات ، بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين ، وقالوا : كيف نحن نعاقب على تأويلنا وتؤجرون أنتم على تأويلكم ؟ قالوا : ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر من نصوصه بالمعاد ، ودلالة النصوص عليها أبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد ؟ وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة ، وكذلك القدرية في نصوص القدر ، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم ، وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب ، وطمث الوادي على القري ، وتأولت الدين كله ، فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده ، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل ؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل ؟ فمن بابه دخل إليها ، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل ؟ [ الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل ] وليس هذا مختصا بدين الإسلام فقط ، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل ، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد .
وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة ، ولكن سلطوا عليها التأويلات فأفسدوها ، كما أخبر - سبحانه - عنهم من التحريف والتبديل والكتمان ، فالتحريف تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم بها ، والتبديل تبديل لفظ بلفظ آخر ، والكتمان جحده .
وهذه الأدواء الثلاثة منها غيرت الأديان والملل ، وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد قط مثله في شيء من الأديان ، ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل .
وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بالتأويل ، ومن بابه دخلوا ، وعلى أساسه بنوا ، وعلى نقطه خطوا .