[ مركوز في فطر الناس ] العمل بالقياس
وفهمت من قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } إرادة النهي عن جميع [ ص: 167 ] أنواع الأذى بالقول والفعل ، وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى ، فلو بصق رجل في وجه والديه وضربهما بالنعل وقال : إني لم أقل لهما أف لعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره ، ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة .
فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده ، والألفاظ لم تقصد لذواتها ، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم ، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه ، سواء كان بإشارة ، أو كتابة ، أو بإيماءة أو دلالة عقلية ، أو قرينة حالية ، أو عادة له مطردة لا يخل بها ، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته ، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه ، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه ، فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا ، ويحب هذا ويبغض هذا .
وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ؟ ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله ، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه ، لما لا يوجد في كلامه صريحا ، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة .
[ العبرة بإرادة التكلم لا بلفظه ]
وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل ، لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة ، فإذا دعي إلى غداء فقال : والله لا أتغدى ، أو قيل له : " نم " فقال : والله لا أنام ، أو : " اشرب هذا الماء " فقال : والله لا أشرب ، فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر ، والألفاظ ليست تعبدية ، والعارف يقول : ماذا أراد ؟ واللفظي يقول : ماذا قال ؟ كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : { ماذا قال آنفا } ، وقد أنكر الله - سبحانه - عليهم وعلى أمثالهم بقوله : { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } ، فذم من لم يفقه كلامه ، والفقه أخص من الفهم ، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه ، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة ، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم .
وقد كان الصحابة يستدلون على إذن الرب - تعالى - وإباحته بإقراره وعدم إنكاره عليهم [ ص: 168 ] في زمن الوحي ، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ ، بل بما عرف من موجب أسمائه وصفاته وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه .
وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب - تعالى - وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمدا صلى الله عليه وسلم ; فإنه يصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ، وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه ، ولا يسلط عليه الشيطان ، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة ، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه ، فهذا معرفة منها بمراد الرب - تعالى - وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه ، وأنه لا يضيع أجر المحسنين .
وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له ، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده ، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره ألبتة .
[ ] بم يعرف مراد المتكلم ؟
والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه ، وتارة من عموم علته ، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر ، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم ، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها ، وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة ، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين .
ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره ، فنقول :
[ ] بعض الأغلاط التي وقع فيها أهل الألفاظ وأهل المعاني
قال الله - تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ، فلفظ الخمر عام في كل مسكر ، فإخراج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به وهضم لعمومه ، بل الحق ما قاله صاحب الشرع : كل مسكر خمر ، وإخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضا به ، وهضم لمعناه ، فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر وأخرج الشطرنج عنه ، مع أنه من أظهر أنواع الميسر كما قال غير واحد من السلف إنه ميسر ؟ وقال - كرم الله وجهه - : هو ميسر العجم . علي
وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله فكما حمل لفظ قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا [ ص: 169 ] تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ، وقوله في آية البقرة : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } مسألة العينة التي هي ربا بحيلة وجعلها من التجارة ، ولعمر الله إن الربا الصريح تجارة للمرابي وأي تجارة ، وكما حمل قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } على مسألة التحليل وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلا في اسم الزوج ، وهذا في التجاوز يقابل الأول في التقصير .
ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وأخيته التي يرجع إليها ، فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها ، ولا يدخل فيها ما ليس منها ، بل يعطيها حقها ، ويفهم المراد منها .
ومن هذا لفظ الأيمان والحلف ، أخرجت طائفة منه الأيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه ، وأدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا ولا منعا ، والأول نقص من المعنى ، والثاني تحميل له فوق معناه .
ومن ذلك لفظ الربا ، أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا له كبيع الشيرج بالسمسم والدبس بالعنب والزيت بالزيتون ، وكل ما استخرج من ربوي وعمل منه بأصله ، وإن خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته ، وهذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا ميزان صحيح ، وأدخلت فيه من مسائل مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا . وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا وشرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح ، ومفسدة الربا البحت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير ، وأخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه ، فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المآل ، وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه .
ومن ذلك لفظ البينة ، قصرت بها طائفة ، فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله ، وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات ، وشهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة ، وأيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث ، ونحو ذلك مما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين ، وشهادة القاذف ، وشهادة الأعمى على ما يتيقنه ، وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم ، وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك . وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال [ ص: 170 ] الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق ، وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك . والصواب أن كل ما بين الحق فهو بينة ، ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعدما تبين بطريق من الطرق أصلا ، بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان وجب تنفيذه ونصره ، وحرم تعطيله وإبطاله ، وهذا باب يطول استقصاؤه ، ويكفي المستبصر التنبيه عليه ، وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء .