وأما الثانية ، وهي فاختلف فيه أصحابنا ، فذهب إرادة صرف الصيغة من غير جهة الأمر إلى جهة الأمر المتكلمون إلى اعتبارها ، وذهب الفقهاء منهم إلى أنه لا تعتبر ، لكن إذا وردت الصيغة مجردة عن القرائن حملت عليه . وأما الثالثة : فهي محل الخلاف بيننا وبين المعتزلة فاتفق أصحابنا على أنه لا تعتبر ، واتفق المعتزلة على اعتبارها . قال : وهو ينبني على أصل كبير بيننا وبينهم ، وهو أن الكائنات بأسرها وحيزها لا تجري عندنا إلا بإرادة الله . وأما فنقل عن المازري المعتزلة اشتراط الإرادات الثلاث إلا فإنه لم يعتبر الأولى . قال الكعبي المقترح " : فمذهب متهافت فإنه نفي للإرادة عن القديم تعالى ، ويلزم أن لا يكون الباري - تعالى - آمرا . وفيه رفض الشرائع عن آخرها ، ولما قيل له : إن الكتاب والسنة طافح بنسبة الإرادة إليه تعالى ، فكيف جوابك ؟ قال : إن أريد بأنه مريد لأفعاله كان معناه أنه خالقها ومنشئها ، وإن أريد أنه مريد لأفعال عباده كان معناه أنه أمر بها ، وهذا [ ص: 267 ] الكلام ظاهر التناقض من جهة أنه يشترط في حقيقة الأمر الإرادة ، ثم يجعل إطلاق الإرادة في حق الله تعالى بمعنى الآمر . ولمن ينتصر الكعبي أن يقول : هو لم ينفها غايته أنه لم يشترطها ، ولا يلزم من عدم الاشتراط النفي . للكعبي
الثانية : أنه عندنا غير الإرادة لأنه قد يقوم بالنفس عند الطلب معنى غير إرادة الفعل فإنا نجد الآمر يأمر بما لا يريد ، وهو آمر ، وإلا لما عد تاركه مخالفا . وقالت المعتزلة : هو إرادة المأمور به ، ويلزمهم أحد أمرين : إما أن تكون المعاصي الواقعة مأمورا بها ; لأنها مرادة ، أو لا يكون وقوعها بإرادة الله - تعالى - وكل منهما محال . وللتخلص من هذه الورطة صار أصحابنا إلى التغاير بينهما ، لكن لهم أن يقولوا : لا نسلم أن الأمر بما لا يريده حقيقة ، غاية ما في الباب أن صيغته صيغة الأمر ، وقد يمنع بما سبق فإنه يعد تاركه مخالفا . وعندي : أن الخلاف لم يتوارد على محل واحد فإنا نريد بالإرادة الطلب النفسي الذي لا يتخلف ، والمعتزلة لا يريدون ذلك لإنكارهم كلام النفس ، وإنما يقولون : إن الواضع وضع هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد ، وذلك هو الإرادة ، فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة .
وقالوا : الطلب الذي يغاير الإرادة لو صح القول به لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الخواص ، ولا يجوز أن يوضع اللفظ لمعنى خفي . وقال ابن السمعاني في القواطع " : ثم هو أمر بصيغته وليس بأمر . بالإرادة ، وعند المعتزلة هو أمر بإرادة الآمر المأمور به ، وهي تنبني على مسألة كلامية فإن عندنا أنه يجوز أن يأمر بالشيء ولا يريده ، وقد أمر الله - تعالى - إبليس بالسجود لآدم ، ولم يرد أن يسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة ، وأراد أن يأكل ، وأمر إبراهيم بذبح ابنه ولم يرد أن يذبح ، وهذا ; لأن ما [ ص: 268 ] أراد الله أن يكون لا بد أن يكون ، ولأن السيد إذا قال لعبده : افعل ، فقال : أمرته بكذا ولم يعلم مراده ، فدل على أن الأمر أمر بصيغته فقط . انتهى .
وقال بعض المتأخرين : الحق أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية ، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا ، وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا كإيمان من أمره بالإيمان ولم يؤمن ، وأمر خليله بالذبح ولم يذبح ، وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يصل ، وفائدته العزم على الامتثال ، وتوطين النفس عليه . واستدل القاضي أبو الطيب على التغاير بأن من والشيخ أبو إسحاق لم يحنث في يمينه مع كونه مأمورا بقضاء دينه ، فلو كان - تعالى - قد شاء [ لما ] أمره به وجب أن يحنث في يمينه ، وهذا ظاهر إذا كان حالا وصاحبه يطلبه ، فإذا كان مؤجلا فقد يمتنع وجوب الوفاء في غد إذا لم يكن غدا محل الأجل . وأما إذا كان حالا وصاحبه غير مطالب ففي وجوب الوفاء على الفور وجهان حلف ليقضين زيدا دينه غدا ، وقال : إن شاء الله ولم يقضه لإمام الحرمين . ثم لا نسلم أن قضاء الدين معلق على المشيئة التي هي مدلول الأمر حتى يحنث لتحقق الأمر بل هو معلق على المشيئة القائمة بذات الله تعالى التي لم يدل عليها الأمر ، فإن صرح بتعليقه على تلك المشيئة منعنا حكم المسألة .