فائدة في الظاهرية في نفي المجاز . قال تحرير النقل عن الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد الداودي في كتابه الموسوم ب " أصول الفتوى " ، وهذا الكتاب عمدة الظاهرية فيما صح عن وابنه ، فقال ما نصه : اختلف الناس في المجازات والاستعارات ، فقال أكثرهم : في القرآن ما هو محمول على الظاهر والحقيقة ، ومنها ما هو محمول على المجاز والتوسع ، وما كان منه من المجاز والتوسع فهو مردود إليهما دون رده إلى الظاهر والحقيقة ، وقال بعضهم : ليس في القرآن مجاز ألبتة والاستعارة بوجه ، وجميعه على ما هو به ، وروي عن داود قريب من هذه الرواية ، والله أعلم بصحتها ، وذهب الأكثر من موافقيه إلى القول بذلك ، وبه قال ابنه داود بن علي أبو بكر محمد بن داود في آخرين ، وكان يقول : المستعير في الحقيقة هو الآخذ ما ليس له ، فإذا سمى الرجل لفظة في القرآن مستعارة ، فقد صرح بأنها قد وضعت في غير موضعها . قال : وهذا خطأ من قائله ; لأن الكلمة الأصلية التي جعلت الأخرى مستعارة منها لن تخلو أن تكون إنما صارت أصلية لخاصية فيها موجودة في عينها ، أو لأن اللغة جاءت بها ، فإن كان الأول فما تلك العلة التي أوجبت ذلك الاسم لها ، ولم يجد مدع إلى تصحيحها سبيلا ؟ وإن كان إنما صارت أصلية ; لأن العرب [ ص: 54 ] تكلمت بها ، فهذه العلة موجودة في الكلمة التي سمتها مستعارة ، فيجب على هذا الأصل ألا يزال اسم الاستعارة عنها ، فتصير أصلية قائمة بها . فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى ، وهي ظالمة } ؟ وقوله { واسأل القرية } ؟ قيل : لهذه وجوه كثيرة : منها أن بعض أهل اللغة زعم أن اسم القرية يقع على جماعة الرجال ، واحتج بقوله تعالى { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } وإلا لقال : أهلكناها ، ويحتمل أن يكون اسأل القرية والبناء يخبراك عن صدقنا ، ويكون ذلك معجزة في أمر يعقوب وولده ، ويحتمل أن يكون الأمر كما ادعاه خصومنا من أن قوله : واسأل القرية " أي أهلها ، وأن قرية اسم للبنيان والأرض ، وأن تكون استحالة سؤال الأرض دليلا على أنه إنما أراد سؤال الناس ، ويكون هذه حقيقة في معناها لا استعارة . ا هـ . ملخصا . وقال في كتابه " الإحكام " : اختلف الناس في المجاز فقوم أجازوه في القرآن والسنة ، وقوم منعوا منه ، والذي نقول : أن الاسم إذا تيقنا بدليل نص أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده ، قال الله تعالى : { أبو محمد بن حزم وعلم آدم الأسماء كلها } وله أن يسمي ما شاء ، فإن لم نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر فلا يحل لمسلم أن يقول : إنه منقول ; لأن الله - تعالى - يقول : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } فكل خطاب خاطبنا الله به أو رسوله ، فهو على موضوعه في اللغة إلى معنى ، فإذا وجدنا ذلك نقلناه إليه . قال : وهذا الذي لا يجوز غيره ، فكل كلمة نقلها الله من موضوعها [ ص: 55 ] في اللغة إلى معنى آخر ، فإن تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة وغير ذلك ، فليس شيء منها مجازا بل حقيقة ، وأما ما نقله عن موضوعه في اللغة إلى معنى قد تعبدنا به دون أن نسميه بذلك الاسم فهذا هو المجاز ، كقوله تعالى : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } فإنما تعبدنا - تعالى - بأن نذل للأبوين ونرحمهما ، ولن يلزمنا الله - تعالى - قط أن ننطق ، ولا يديننا بأن للذل جناحا ، وهذا بخلاف الصلاة والصيام فإنه لا خلاف في أنه افترض علينا تسميتها هذه بأعيانها . قال : واحتج من منع المجاز بأنه كذب ، والله ورسوله يبعدان عنه ، قال : فيقال له : صدقت ، وليس نقل الله - تعالى - الاسم عما كان الله - تعالى - علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذبا ، بل الكذب ما لم ينقله تعالى ، بل ما نقله هو الحق نفسه . وقال في كلامه على قوله تعالى : { واسأل القرية } وقد ذكر رجل من المالكيين من أهل البصرة يعرف بابن خويز منداد أن للحجارة عقلا ، ولعل تمييزه يقرب من تمييزها ، فقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالأنعام ، وصدق - سبحانه - أنهم أضل سبيلا . قال هذا الجاهل : من الدليل على أن للحجارة تعقلا قوله تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق } الآية فدل على أن لها عقلا . قال : ومن العجب استدلاله على أنه لا يخشى الله إلا ذو عقل وكيف يكون لها تمييز وعقل ، والله شبه قلوب الكفار بالحجارة في أنها لا تعقل الحق ولا تذعن له . انتهى ملخصا . قال أبو محمد الغزالي في " المنخول " : كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام لا [ ص: 56 ] يحمل على الاستعارة ما أمكن ، فإنها لا تليق إلا بواعظ أو خطيب أو شاعر ينتحي السجع لإيقاعه في القلوب ، فإن الشارع إذا بين حكما لمعجوز مثلا فيبعد منه التجوز ، وهو تشدق ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه . نعم ، لا يبعد في الاستعارة إذا ذكر الثواب والعقاب ووصف الجنة والنار ليعظم وقعه في الصدر .