وإني لأكنو عن قدور بغيرها وأعرب أحيانا بها وأصارح
وعند البيانيين : أن يذكر لفظ دال على شيء لغة ، ويراد به غير المذكور لملازمة بينهما خاصة ، والغرض منه إما قبح ذكر الصريح نحو { أو جاء أحد منكم من الغائط } أو إخفاء المكنى عنه عن السامع .واختلفوا ؟ فقيل : مجاز . وكلام هل الكناية من باب المجاز أم لا يقتضيه في موضع من الكشاف ، فإنه قال في قوله تعالى { الزمخشري ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم } الكناية : أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض : أن يذكر شيئا يدل على شيء لم يذكره . وكلام غيره من البيانيين يقتضي أنها حقيقة . ووقع في كلام السكاكي أيضا أنها ليست بحقيقة ولا مجاز ; لأنه قال : الكلمة المستعملة إما أن يراد بها معناها وحده ، أو معناها وغير معناها معا ، والأول الحقيقة في المفرد ، والثاني المجاز في المفرد ، والثالث : الكناية ، وجمع بينهما بأنه أراد هنا بالحقيقة التصريح بها بقرينة جعلها في مقابلة الكناية . وتصريحه فيما بعد بأن الحقيقة والكناية يشتركان في كونهما حقيقتين ، ويفترقان بالتصريح وعدمه . وجزم الجاجرمي في رسالته بأنها ليست من المجاز ، ; لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه ، والكناية استعماله في موضوعه غير أن المقصود به معنى [ ص: 136 ] ثان ، فإذا قلت : فلان طويل النجاد ، فإنك تريد أن تجعل حقيقة طول النجاد دليلا على طول القامة ، فقد استعملت اللفظ في موضوعه الأصلي لكن غرضك معنى ثان يلزم الأول ، وهو طول القامة ، وإذا شرط في الكناية اعتبار الموضوع الأصلي لم تكن مجازا . وكذلك إذا قلت لزوجتك : أنت بائن ، فقد استعملت لفظ البينونة في موضوعها الأصلي ، وهو انقطاع الوصلة غير أن مقصودك الطلاق ، ولهذا قالوا : تشترط النية في الكناية ، ولا تشترط النية في المجاز . ا هـ .
وفيما ذكره نظر ، وهو فيه متابع للإمام فخر الدين ، فإنه قال في نهاية " الإيجاز " : واللفظة إذا أطلقت وكان الغرض الأصلي ، غير معناها ، فإما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالا على ذلك الغرض الأصلي ، وإما أن لا يكون كذلك ، فالأول هو الكناية ، والثاني هو المجاز ، فالكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، فقولنا : طويل النجاد استعمل لا ; لأن الغرض الأصلي معناه بل ما يلزمه من طول القامة . قال : وليست الكناية من المجاز بدليل أنها تفيد المقصود بمعنى اللفظ ، فوجب أن يكون معناه معتبرا ، وإذا كان معتبرا فيما نقلت اللفظة عن موضوعها ، فلا تكون مجازا ، فإذا قلت : فلان كثير الرماد فإنك تريد أن تجعل حقيقة كثرة الرماد دليلا على كونه جوادا ، فأنت استعملت هذه الألفاظ في معانيها الأصلية غير منكر أن في إفادة كونه كثير الرماد معنى ثانيا يلزم الأول وهو الجود ، وإذا وجب في الكناية اعتبار معانيها الأصلية لم تكن مجازا . انتهى .
ويشهد لتغايرهما ما قاله الأصحاب في كتاب الطلاق : إن الكناية إنما تؤثر فيها النية دون القرائن مع أن المجاز تؤثر فيه القرينة بالاتفاق . وقال بعض المتأخرين : الكناية تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا إلا [ ص: 137 ] أن المقصود منها الإشعار بما كنى بها عنه إما حقيقة أو مجازا ، فالكناية أعم لانقسامها إليهما ، فالحقيقة والمجاز وصفان للفظ باعتبار دلالته على المعنى ، والاستعمال غير الدلالة ، فافهم هذا . فائدة ظاهر كلام صاحب " الكشاف " أنه يشترط في الكناية إمكان المعنى الحقيقي ; لأنه ذكر في معنى قوله تعالى : { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } أنه مجاز عن الاستهانة والسخط ، وأن النظر إلى فلان بمعنى الاعتداد به ، والإحسان إليه كناية إذا أسند إلى من يجوز عليه النظر ، ومجاز إذا أسند إلى من لا يجوز عليه . [ التعريض ] وأما التعريض فهو لغة : ضد التصريح . قال الإمام فخر الدين في تفسيره : ومعناه أن يضمن الكلام ما يصلح للدلالة على مقصوده ، وتحصل الدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بخلاف المقصود أتم وأرجح . وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم به حوله ولا يظهره . قال : : أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه ، كقولك : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، والتعريض أن تذكر كلاما محتملا لمقصودك ، إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على غير مقصودك . والفرق بين الكناية والتعريض
[ ص: 138 ] قيل : والتعريض أخص من الحقيقة مطلقا لا يصدق على المجاز ; لأنه إنما يراد استعماله في المعنى الحقيقي لكن يلوح به إلى غرض آخر هو المقصود ، فهو يشبه الكناية إذا قصد بها الحقيقة ، وهو أخص من الحقيقة ; لأنها مرادة من حيث هي هي ، وهو إنما يراد منه الحقيقة من حيث إشعارها بالمقصود لا بد فيها من قرينة حالية فإن اللفظ المجرد لا يكفي فيها ، فمن الكناية المس والإفضاء ، والدخول كناية عن الجماع ، ومن التعرض قول إبراهيم عليه السلام : { بل فعله كبيرهم هذا } أي أن كبير الأصنام غضب أن تعبد هذه الأصنام الصغار فكسرها ، فكذلك الله يغضب لعبادة من دونه ، فكلام إبراهيم في حق نفسه ضربه مثلا لمقصوده من التعريض ، فهو من مجاز التمثيل ، ويكون التعريض مما لا يراد به المعنى الحقيقي بل ضرب المثل هذا ، ومنه ما يراد به المعنى الحقيقي ، ويشار به إلى المعنى الآخر الذي هو المقصود من التعريض . هذا حده باصطلاح البيانيين .
وأما الفقهاء فقد ذكروا الكنايات ، والظاهر أنها عندهم مجاز ، فإذا قال الزوج : أنت خلية مريدا الطلاق ، فهو مجاز ويسميه الفقيه كناية ، فلو أراد حقيقة اللفظ لكونه لازما للطلاق ففي وقوع الطلاق نظر ، ولم يتعرضوا للفرق بين الكناية والتعريض إلا في باب اللعان ، فإنهم ذكروا الصريح والكناية والتعريض أقساما ، وذكروا في الخطبة التصريح والتعريض ولم يذكروا الكناية . وقالت الحنفية : إن كنايات الطلاق يطلق عليها كناية بطريق المجاز دون الحقيقة ; لأن حقيقة الكناية ما استتر المراد به ، وهذه الألفاظ معانيها غير مستترة ، بل ظاهرة لكل أحد من أهل اللسان لكنها شابهت الكناية من جهة الإبهام ، ولهذا اشترطت فيها النية ليزول الإبهام ، وتتعين البينونة عن وصلة النكاح ، وهذا غير مسلم ; لأنه إن أريد أن مفهوماتها اللغوية ظاهرة غير [ ص: 139 ] مستترة ، فهذا لا ينافي الكناية ، واستتار مراد المتكلم بها كما في جميع الكنايات ، وإن أريد أن ما أراده المتكلم بها ظاهر لا استتار فيه فممنوع ، كيف ولا يمكن التوصل إليه إلا ببيان من جهة المتكلم ، وهم مصرحون بأنها من جهة المحل مبهمة مستترة ؟ ولم يفسروا الكناية إلا بما استتر المراد منه سواء كان ذلك باعتبار المحل أو غيره ، ولم يشترطوا إرادة اللازم ثم الانتقال منه إلى الملزوم بدليل أنهم جعلوا الحقيقة المهجورة والمجاز المتعارف كناية لمجرد استتار المراد .