مسألة أما إذا تكرر لفظ الأمر نحو صل ثلاثا صل ثلاثا ، فإن قلنا : في الأمر الواحد يقتضي التكرار ، فهاهنا هو تأكيد قطعا ، وإن قلنا : إن مطلقه للمرة الواحدة ففي تكرره وجهان : حكاهما الشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي . أحدهما : أنه تأكيد له فلا يقتضي من المرة الواحدة .
قال : هو قول أصحابنا ، ونسبه الأستاذ أبو منصور ابن فورك والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ للصيرفي ، وقد رأيت التصريح به في كتابه المسمى بالدلائل والأعلام " ، فقال : كقوله تعالى { متى خوطبنا بإيجاب شيء وكرر لم يتكرر الفعل لتكرر الأمر وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } في مواضع كثيرة ، والدليل عليه : حديث الأقرع بن حابس [ ص: 322 ] في الحج ، وقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية ، لما أمر بغسل الأعضاء عند القيام إلى الصلاة وأنه يغسل كل الأعضاء للجنابة لم يجب أن يغسل الأعضاء مرتين من أجل الحدث أو الجنابة ، لأنه أمر من قام إلى الصلاة أن يدخل فيها بالصلاة التي وضعها ، ولم يجعل الله تعالى الوضوء من الحدث لنفسه ; لأن الحدث إنما هو علم لنقض الطهارة لا لإيجابها ، ولو كان كذلك لكان إذا أحدث وجب أن يتطهر لا للصلاة ، فعلم بذلك أن الطهارة للصلاة بهذه الأوصاف ، ولو كان من أجل الحدث للزم تكرار الغسل كما يلزم من أمر إن فعل شيئا من أجل شيء ، وفعل مثله من أجل غيره كأمرنا بالفدية إذا حلق ، وإذا لبس نعليه وبه جزم في تمهيده " . والثاني : أنه استئناف فيقتضي الأمر بتكرير الفعل ، ونسبه أبو الخطاب الحنبلي ابن الصباغ لأكثر أصحابنا ، وصححه له الشيخ أبو إسحاق وإلكيا الهراسي ، وقال ابن برهان : إنه قول الجمهور ، وحكاه الهندي عن الأكثرين ، ونسبه صاحب الواضح " المعتزلي لعبد الجبار ، ونسبه لأهل الرأي ، وقطع بالأول . الأستاذ أبو منصور
وقال الباجي : هو قول جماعة من شيوخنا ، وهو ظاهر مذهب ، وإليه ذهب عامة أصحاب مالك ، ونقل وجها ثالثا ، وهو أنه لا يحمل على التأكيد والتكرار إلا بدليل ، ونسبه الشافعي ، ورأيت في كتابه أنه الصحيح [ ص: 323 ] وهذا قول الوقف الذي حكاه لابن فورك ابن القشيري وغيره عن الواقفية أنه متردد بين التأكيد وغيره فيتوقف على القرينة . قال وكلام القاضي متردد فتارة يميل إلى الوقف ، وهو الصحيح وتارة يقول : يقتضي إنشاء لا متجددا . انتهى .
وممن حكى الوقف عنه أبو الحسين البصري . قال ويمكن تخريج هذين الوجهين في هذه المسألة من قول الشيخ أبو إسحاق في الفروع فيما إذا الشافعي قولان . ولمحل الخلاف شروط : أحدها : أن لا يكون هناك ما يمنع التكرار ، فإن كان ، فهو للتأكيد قطعا ، كالأمر بالقتل والعتق إذا تكررا في شخص واحد ، فإنه لا يمكنه قتله وعتقه مرتين . ذكره قال : أنت طالق أنت طالق ، ولم يكن له في الثانية نية هل يقتضي التأكيد أو الاستئناف ؟ ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب في الملخص " . الثاني : أن يرد التكرار قبل الامتثال فإن ورد بعده حمل الثاني على الاستئناف قاله ابن القشيري والباجي وغيرهما
الثالث : أن يتحد مدلول اللفظين ، نحو صل ركعتين صل ركعتين فإن اختلفا اقتضى التكرار قطعا . قاله الباجي وصاحب الواضح " ، نحو اضرب زيدا أعطه درهما ، اضرب زيدا اضرب عمرا ، صل ركعتين ، صم يوما ، ولا فرق في هذا القسم بين أن يقرن بحرف العطف أو لا ، ولا بين التعريف والتنكير كما ذكره إلكيا الهراسي وغيره . قال نعم إن دل الدليل على أن الثاني ذكر تأكيدا أو أفرد عما عداه تفخيما فالحكم للدليل ، نحو عطف جبريل وميكائيل على الملائكة .
وقال صاحب الكبريت الأحمر " : إن ورد الأمر الأول بالنكرة والثاني [ ص: 324 ] بالمعرفة فإنه ينصرف الثاني إلى ما انصرف إليه الأول سواء بالعطف وغيره ، وكذلك إذا وردا بالمعرفة ; لأن الألف واللام متى ظفرا بمعهود فإنهما ينصرفان إليه إلا لمانع ، ولهذا حمل العسر الثاني على الأول في قوله تعالى : { ابن عباس فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } حتى قال : " لن يغلب عسر يسرين " . الرابع : أن لا يعطف أحدهما على الآخر ، فإن عطف فلا خلاف في حمل الثاني على الاستئناف ; لأن الشيء لا يعطف على نفسه . قاله الباجي وصاحب الواضح " ، وبه جزم ابن الصباغ في العدة " ، ولكنه خص ذلك بما إذا لم يكن فيه لام التعريف ، فإن كانت مثل صل ركعتين ، وصل ركعتين قال : فاختلفوا فيه ، فقيل : يحمل على الاستئناف ، وقيل بالوقف ; لأن العطف يقتضي المغايرة ، والألف واللام تقتضي الاتحاد . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : إذا أمر بفعل ، ثم عطف عليه بآخر فللمسألة أحوال : أحدها : أن يكون الثاني خلاف الأول ، نحو { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فهما متغايران .
الثاني : أن يكون ضده فكذلك بالاتفاق كقوله : لا تمس زيدا بسوء ، ولا تضربه ثم تقول : اضربه ، وشرطه أن يتعدد الوقت ، فلو اتحد لم يجز ، وإن ورد حمل على التخيير .
الثالث : أن يكون الأمر الثاني مثل موجب الأول فهذا وضع الخلاف ، فذهب القاضي وغيره إلى أن الثاني غير الأول ما لم يمنع مانع ، وهذا الذي يجيء على قول أصحابنا . وذهب آخرون إلى أن الثاني هو الأول ، ولا بد أيضا في هذا من اشتراط كون الفعل مما يصح تكراره . قال : فإن كان الأمر الأول متناولا لجميع [ ص: 325 ] الجنس والمعطوف متناولا لبعضه ، فقيل بالتغاير ، كقوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فقيل : إن هذا يوجب أن تكون الوسطى غير الصلوات المذكورة قبلها ; لأن العطف للتغاير ، والصحيح : أن ذلك محمول على ما سبق إلى الوهم عند سماعه ، وهو التفخيم والتعظيم . وأما عكسه ، وهو كون الثاني أعم من الأول ، كقوله : اقتل أهل الأديان ، واقتل جميع المشركين ، فاختلف فيه هنا ، والصحيح : أنه لا يدل على المغايرة ، وأن المراد بذلك التفخيم والبداءة بما هو الأهم قال وهذا كله إذا لم تقم دلالة على أن المراد به غير التأكيد ، فإن قامت دلالة على غير ذلك صرنا إليه . انتهى . الشرط الخامس : أن يكون الأمر في وقتين ، كذا صور به سليم مسألة الخلاف . وقضيته : أنه إذا كرره في وقت واحد يحمل على التأكيد قطعا ، لكن صرح ابن القشيري في كتابه أنه لا فرق بين أن يتخلله زمان أم لا ، ثم قال : وقال القاضي : إن فرض الكلام في الأمر والنهي الصادر من الخلق ، فلا يبعد التفصيل بين ما يريد من الأوامر على التوالي أو مع التخلل بزمان ، فإن تخلل حمل على التجدد ، ويمكن حمله على التأكيد ، فأما ما في أوامر الله تعالى فلا فرق ، ولذلك جاز التخصيص . قال ابن القشيري : وهذا الذي قاله القاضي محل نظر ، فإن ما اتصل بنا من كلام الله - تعالى - عباراته دالة عليه ، فأي فرق ؟ ولو صح هذا لصح تأخير الاستثناء على المستثنى منه . السادس : أن تتكرر صيغة الأمر ، فإن تكرر المأمور به دون صيغته ، نحو صل ركعتين ركعتين فلم يصرح بها الأصوليون ، ويخرج من كلام الفقهاء منها خلاف . والصحيح لا فرق فإنهم اختلفوا قطعا ؟ فيه وجهان أصحهما : الأول . في قوله : أنت طالق طالق ، هل [ ص: 326 ] هو بمثابة أنت طالق أنت طالق ، أو تقع طلقة