[ ] أما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد بالاتفاق كالنهي عن الحركة يكون أمرا بالسكون ، وإن كان له أضداد ، فاختلفوا فيه ، فقيل : نفس الأمر بضده كما في جانب الأمر قاله النهي عن الشيء إن كان له أضداد القاضي ، ثم مال آخرا إلى أنه يتضمنه ، وقيل : بل ذلك في جانب الأمر لا النهي ، فلا يجري الخلاف . وقال إمام الحرمين في البرهان " : الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداد المنهي عنه ، والأمر بالشيء نهي عن جميع أضداد المأمور به ، وجرى عليه في الملخص " القاضي عبد الوهاب وابن السمعاني في القواطع " وسليم الرازي في التقريب " فقالوا : إن كال له ضد واحد فهو أمر بذلك الضد أي : تضمنا ، كما قاله [ ص: 360 ] سليم كالصوم في العيدين ، وكقوله : لا تكفر فإنه أمر بالإيمان .
وإن كان له أضداد كثيرة فهو أمر بضد واحد ; لأنه لا يتوصل إلى ترك المنهي عنه إلا به ، فأما إثبات الأمر بسائر الأضداد فلا معنى له ، وحكاه ابن برهان في الأوسط " عن العلماء قاطبة . وقال صاحب اللباب " من الحنفية : النهي يقتضي الأمر بضده إن كان ذا ضد واحد ، فإن كان له أضداد ، فقال أبو عبد الله الجرجاني : لا يقتضي أمرا بها . وقال : يقتضي أمرا بالواحد ، وهو قول عامة أصحابنا . انتهى . الشافعي
وحكى إمام الحرمين قولا ثالثا : أنه ليس بأمر بشيء مطلقا ، وشنع على من قال بأن النهي عن ذي أضداد أمر بأحد أضداده ، فقال : من قال : إن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فقد اقتحم أمرا عظيما ، وباح بالتزام مذهب في نفي الإباحة ، فإنه إنما صار إلى ذلك من حيث قال : الأمر بالشيء نهي عن الأضداد ، ويتضمن لذلك من حيث تفطن لغائلة المعنى فقد ناقض كلامه فإنه كما يستحيل الإقدام على المأمور به دون الانكفاف عن أضداده فيستحيل الانكفاف عن المنهي [ عنه ] دون الاتصاف بأحد أضداده . والتحقيق في هذه المسألة : ما أشار إليه الكعبي ابن القشيري أن هاهنا شيئين : أحدهما : كون الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا ؟ الثاني : المأمور بشيء منهي عن جميع أضداده ، وأن الآمر به ناه عن جميع الأضداد .
[ ص: 361 ] فأما الثاني فقد نقل القاضي فيه الإجماع ، وقال أبو نصر بن القشيري : أنا لا أشك أن هذا ممنوع ، ثم ذكر أن القاضي قال : إن منع ذلك مانع قيل له : هذا خرق ما عليه الكافة مع أنا نلجئه إلى ما قيل له به ، فنقول : إذا ورد الأمر على الجزم بشيء وهو مقيد بالفور وانتفى عنه سمة التخيير ، فتحريم ضد الامتثال لا شك فيه ; إذ لو لم يحرم فما معنى وجوب الامتثال ؟ انتهى . وأما الأول فلا سبيل إلى القول به مع تجويز عدم خطوره بالبال ، وعلى تقدير الخطور فليس الضد مقصودا بالذات ، وإنما هو ضروري دعا إليه تحقق المأمور به ، وليس كل ضروري للشيء يقال له : إنه مدلوله أو يتضمنه . قال : وهذا التحقيق تحرير في أن الآمر بالشيء ليس ناهيا عن أضداده ; لأن الأمر للقيام طالب له ، وقد يخطر له ضده ، فكيف يطلب ؟ واعلم أنهم اتفقوا على أن عين الأمر لا يكون نهيا عن ضد المأمور به ، وكذا النهي عن الشيء لا يكون أمرا بضد المنهي عنه ، لكنهم اختلفوا في أن كل واحد منهما هل يوجب حكما في ضد ما أضيف إليه ؟ فذهب وغيره من متأخري أبو هاشم المعتزلة إلى أنه لا حكم له في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه ، وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي ، وذهب بعض المعتزلة كعبد الجبار وأبي الحسين إلى أن الأمر يوجب حرمة ضده ، وذهب جماعة من محققي الحنفية إلى أنه يدل على كراهة ضده . وفائدة الخلاف : أن من قال : لا يقتضي تحريم الضد ، قال : إذا أدى الاشتغال به إلى فوات المأمور به حرم ; لأن تفويت المأمور به حرام ، فلما نهى المحرم عن لبس المخيط دل على أن من السنة لبس الإزار والرداء .
[ ص: 362 ] تنبيهات الأول أطلقوا الأمر ، وهو يشمل الواجب والمندوب ، وبه صرح القاضي في مختصر التقريب " وجعلها نهيا عن الضد تحريما وتنزيها ، ونقل تخصيصه بالواجب عن بعض أهل الحق ، وهو الذي حكاه في الملخص " عن القاضي عبد الوهاب الشيخ ، فقال : ذهب الشيخ إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان له ضد واحد ، وأضداده إن كان ذا أضداد . وحكى القاضي أنه - يعني الشيخ - شرط في ذلك أن يكون واجبا لا ندبا . قال : وقد حكي عن الشيخ أنه قال في بعض كتبه : إن الندب حسن وليس مأمورا به ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى اشتراط الوجوب في الأمر ; إذ هو حينئذ لا يكون إلا واجبا ، ثم قال القاضي : والصحيح عندي أن . قال : ولا بد أن يشترط الأمر بالشيء نهي عن ضده من وجوب وندب الشيخ في ذلك شرطين : أحدهما : أن يكون مع وجوبه مضيقا ، مستحق العين لأجل أن الواجب الموسع ليس بنهي عن ضده .
والثاني : أن يكون نهيا عن ضده ، وضد البدل منه الذي هو بدل لا ما إذا كان أمر على غير وجه التخيير . انتهى . وهذا الشرط الثاني قد سبق تصوير المسألة به ، وقد ذكرهما في كتابه ، فقال : إذا كان شيء واحد مضيق معين لا بدل له ، وذكره الشيخ أبو حامد الإسفراييني ابن القشيري أيضا ، فقال : هذا في الأمر بالشيء على التنصيص لا على التخيير ، فإن الأمر على التخيير قد يتعلق بالشيء وضده ، فيكون الواجب أحدهما لا بعينه .
[ ص: 363 ] وذكر أن الأمر بالشيء إنما يكون عن ضده إذا كان المأمور به مضيق الوجوب بلا بدل ولا تخيير ، كالصوم ، فأما إذا لم يكن كذلك فلا يكون نهيا عن ضده ، كالكفارات واحدة منها واجبة مأمور بها غير منهي عن تركها ، لجواز ردها إلى غيرها ، كما في الأمر . وقد احترز عبد القاهر البغدادي القاضي عن هذا فقال : الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به وبدله القائم مقامه إن كان له بدل ، فيخرج بذلك الأمر المشتمل على التخيير . انتهى . وذكر صاحب القواطع " أن المسألة مصورة بما إذا كان الأمر يوجب تحصيل المأمور به على الفور فلا بد من ترك ضده عقب الأمر كما لا بد من فعله عقب الأمر ، فأما إذا كان الأمر على التراخي فلا ، وهكذا ذكره بعض الحنفية كشمس الأئمة وغيره أنه إنما يقتضي النهي عن ضده إذا اقتضى التحصيل على الفور .
وأما الأول فاستشكل وجهه الموسع إن لم يصدق عليه أنه واجب فأين الأمر حتى يستثنى منه قولهم : الأمر بالشيء نهي عن ضده ؟ وإن صدق عليه واجب بمعنى أنه لا يجوز إخلاء الوقت عنه فضده الذي يلزم من فعله ، تفويته منهي عنه . وحاصله : أنه إن صدق الأمر عليه انقدح كونه نهيا عن ضده وإلا فلا وجه لاستثنائه كما قلنا في المخير . الثاني : ذكر بعضهم أن الخلاف إنما هو في الضد الذي هو الأمر الوجودي الذي هو من لوازم نقيض الشيء المأمور به ، فالأمر بالحركة هل هو نهي عن نفس السكون الذي هو ضد أم لا ؟ هذا هو موضع الخلاف أما النقيض فلا خلاف أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن نقيضه ، فإن الحركة نقيض اللا حركة فاللا حركة نقيض ، وليس بضد بل ضد الحركة هو [ ص: 364 ] السكون وهذا أمر وجودي إلا أنه لازم مساو لنقيض الحركة ، فإذا وجد الأمر بالحركة فهذا بعينه نهي عن نقيضها ; لأن النهي عن نقيضها هو سلب لسلبها ، وهو في نفسه عبارة عن سلب الحركة وسلب سلب الحركة هو نفس الحركة ; لأن سلب السلب إثبات ، وطلب سلب الحركة هو طلب سلب نفس الحركة فيكون الأمر بالحركة هو بعينه نهيا عن نقيضها ، وهو سلب الحركة . الثالث : ذكر بعضهم أن موضع الخلاف إذا لم يقصد " الضد " بالنهي فإن قصد كقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن } فإن الضد مثل هذه الصورة حرام بلا خلاف .