فإن قيل . ما تقولون في من ، مع أن الفرض سد عشر جوعات ، والكل عباد الله ، والفرض الإحسان إليهم ، فأي فرق بين سد جوعة مسكين في عشرة أيام ؟ هل يساوي أجره أجر من سد جوعة عشرة مساكين قلنا لا يستويان لأن الجماعة يمكن أن يكون فيهم ولي لله أو أولياء له فيكون إطعامهم أفضل من تكرير إطعام واحد . تحصيل هذه المصالح في محل واحد أو في محال متعددة ؟
وقد حث الرب سبحانه وتعالى على الإحسان إلى الصالحين بقوله : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } ، ومثل هذا لا يتحقق في واحد بعينه ، ولأنه يرجى من دعاء الجماعة ما لا يرجى من دعاء الواحد ، كما يرجى من دعاء المصلين على الميت إذا بلغوا أربعين ما لا يرجى من دعائهم إذا نقصوا عن ذلك ، كما جاء في الحديث ، ولمثل [ ص: 34 ] هذا أوجب رضي الله عنه الشافعي ، لما فيه من دفع أنواع من المفاسد وجلب أنواع من المصالح ، فإن دفع الفقر والمسكنة نوع مخالف لدفع الرق عن المكاتبين ، والغرم عن الغارمين ، والغربة والانقطاع عن أبناء السبيل ، وكذلك التأليف على الدين عند من يرى أن سهم المؤلفة باق ، وكذلك إعانة المجاهدين على الجهاد الذي هو تلو الإيمان برب العالمين . صرف الزكاة إلى الأصناف
فإن قيل : قد يترتب الشرع على الفعل اليسير مثل ما يترتب على الفعل الخطير ، كما رتب غفران الذنوب على الحج المبرور ، ورتب مثل ذلك على موافقة تأمين المصلي تأمين الملائكة ، ورتب غفران الذنوب على قيام ليلة القدر ، كما رتبه على قيام جميع رمضان ، فالجواب أن هذه الطاعات وإن تساوت في التكفير فلا تساوي بينها في الأجور ; فإن الله سبحانه وتعالى رتب على الحسنات رفع الدرجات وتكفير السيئات ، ولا يلزم من التساوي في تكفير السيئات التساوي في رفع الدرجات ، وكلامنا في جملة ، وذلك مختلف فيه باختلاف الأعمال . فمن الأعمال ما يكون شريفا بنفسه وفيما رتب عليه من جلب المصالح ودرء المفاسد ، فيكون القليل منه أفضل من الكثير من غيره ، والخفيف منه أفضل من الشاق من غيره ، ولا يكون الثواب على قدر النصب في مثل هذا الباب كما ظن بعض الجهلة ، بل ثوابه على قدر خطره في نفسه ، كالمعارف العلية والأحوال السنية والكلمات المرضية . فرب عبادة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وعبادة ثقيلة على الإنسان خفيفة في الميزان بدليل أن التوحيد خفيف على الجنان واللسان وهو أفضل ما أعطيه الإنسان ومن به الرحمن ، والتفوه به أفضل كل كلام ، بدليل أنه يوجب الجنان ويدرأ غضب الديان ، وقد صرح عليه السلام [ ص: 35 ] بأنه أفضل الأعمال ، لما { ما يترتب على الفعل من جلب المصالح ودرء المفاسد } ، وجعل الجهاد دونه مع أنه أشق منه ، وكذلك معرفة التوحيد أفضل المعارف ، واعتقاده أفضل الاعتقادات ، مع سهولة ذلك وخفته مع تحققه ، وقد كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، وكانت شاقة على غيره ، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مع خفتها وقرتها ، وكذلك إعطاء الزكاة عن طيب نفس أفضل من إعطائها مع البخل ، ومجاهدة النفس . قيل له أي الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان بالله
وكذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة .
وجعل للذي يقرؤه يتعتع فيه وهو عليه شاق أجرين ، ومما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أبو الدرداء : ما شيء أنجا من عذاب الله من ذكر الله معاذ بن جبل } ، رواه ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى قال : ذكر الله ، قال الترمذي .
ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أبو هريرة } ، أخرجه من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه في صحيحه . مسلم
وكذلك قوله عليه السلام فيما رواه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أبو هريرة } ، أخرجاه في الصحيحين . [ ص: 36 ] والحاصل بأن كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم كان أكثر الثواب على أكثرهما لقوله تعالى : { الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف ، فإن تساوى العملان من كل وجه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } .