فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما
ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع ; إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن ، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن ، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن .
واتفق الحكماء على ذلك . وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض ، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال . وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك [ ص: 6 ] لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان ، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي .
وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما ، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما ، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت ; فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام ، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك ، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك . فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير ، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به . والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب ، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح ودرء مفاسدهم .
وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح ، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح ، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح ، والفاسد والأفسد ، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة . فمن حرم ذبح الحيوان من الكفرة رام بذلك مصلحة الحيوان فحاد عن الصواب ; لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس ، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدموا الأحسن على الأخس ، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح . { فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين } ؟ فمن وفقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله ، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه فقد فاز وقليل ما هم .
قال : وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل ، وكذلك المجتهدون في الأحكام من وفقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة ، فأصاب الصواب فأجره على قصده وصوابه ، بخلاف من أخطأ الرجحان [ ص: 7 ] فإن أجره على قصده واجتهاده ، ويعفى عن خطئه وزلله . وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول . واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب ، كما ذكرنا في هذا الكتاب ، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن ، ولو خير بين فلس ودرهم لاختار الدرهم ، ولو خير بين درهم ودينار لاختار الدينار . لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح ، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت . واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود ، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بنصب مقترن بها ، أو سابق ، أو لاحق ، وأن السعي في تحصيل هذه الأشياء كلها شاق على معظم الخلق لا ينال إلا بكد وتعب ، فإذا حصلت اقترن بها من الآفات ما ينكدها وينغصها ، فتحصيل هذه الأشياء شاق . أما المآكل والمشارب فيتألم الإنسان بشهوتها ، ثم يتألم بالسعي في تحصيلها . ثم يتألم بما يصير إليه الطعام والشراب من النجاسة والأقذار ومعالجة غسله بيده .
وأما الملابس فمفاسدها مشقة اكتسابها ، وما يقترن بها من آفاتها ; كالتخرق والتفتق والبلى والاحتراق .
وأما المناكح فيتألم المرء بمؤنها ونفقتها وكسوتها وجميع حقوقها .
وأما المراكب فمفاسدها مشقة اكتسابها والعناء في القيام بعلفها وسقيها وحفظها وسياستها ، وما عساه يلحقها من الآفات ، وكذلك الرقيق فيه هذه المفاسد .
وأما المساكن فلا تحصل إلا بكد ونصب ، وتقترن بها آفاتها من الانهدام والاحتراق والتزلزل والتعيب وسوء الجار ، والضيق على من لا يستطيع ضيقها ، واتساعها على من يتألم باتساعها ، وسوء صقعها في الوخامة والدمامة والبعد من الماء ومجاورة الأتونات والحمامات والمدابغ ذوات الروائح المستخبثات .
[ ص: 8 ] والاشتهاء كله مفاسد لما فيه من الآلام ، فلا تحصل لذة شهوة إلا بتألم الطبع بتلك الشهوة ، فإن كانت مؤدية إلى مفسدة عاجلة أو آجلة يعقبها ما ينبني عليها من المفاسد العظام ، ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا . فإن قيل إذا كانت الشهوة ألما ومرارة فالجنة إذن دار الآلام والمرارات لأن فيها ما تشتهي الأنفس ؟ قلت ألم الشهوة مختص بدار المحنة .
وأما دار الكرامة فإن اللذة تحصل فيها من غير ألم يتقدمها أو يقترن بها ، لأن اللذة والألم في ذلك عرضان متلازمان في هذه الدار بحكم العادة المطردة ، وتلك الدار قد خرقت فيها العادة كما خرقت في المخاط والبصاق والبول والغائط والتعادي والتحاسد ومساوئ الأخلاق .
وكذلك تخرق العادة في وجدان لذتها من غير ألم سابق أو مقارن ; فيجد أهلها لذة الشراب من غير عطش ولا ظمأ ، ولذة الطعام من غير جوع ولا سغب ، وكذلك خرق العادات في العقوبات ; فإن أقل عقوبات الآخرة لا تبقى معه في هذه الدار حياة .
وأما في تلك الدار فإن أحدهم لتأتيه أسباب الموت من كل مكان وما هو بميت .
وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل ، ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة فمنها ; ما هو في أعلاها ، ومنها ما هو في أدناها ، ومنها ما يتوسط بينهما ، وهو منقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه . فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما ، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما ، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال ، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال . فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن ، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان . ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب ، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب ، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها ، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها ، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها ، لأن مصالح الآخرة [ ص: 9 ] خلود الجنان ورضا الرحمن ، مع النظر إلى وجهه الكريم ، فيا له من نعيم مقيم ، ومفاسدها خلود النيران وسخط الديان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم ، فيا له من عذاب أليم ، والمصالح ثلاثة أنواع : أحدها مصالح المباحات .
الثاني مصالح المندوبات .
الثالث : مصالح الواجبات .
والمفاسد نوعان : أحدهما : مفاسد المكروهات .
الثاني : مفاسد المحرمات .