[ ص: 69 ] المثال الخامس عشر : إذا فإن كان معه ما يدفع ضرورتهما لزمه الجمع بين الضرورتين تحصيلا للمصلحتين ، وإن وجد ما يكفي ضرورة أحدهما ، فإن تساويا في الضرورة والقرابة والجوار والصلاح احتمل أن يتخير بينهما ، واحتمل أن يقسمه عليهما ، وإن كان أحدهما أولى ، مثل أن يكون والدا أو والدة ، أو قريبا أو زوجة ، أو وليا من أولياء الله تعالى ، أو إماما مقسطا أو حاكما عدلا ، قدم الفاضل على المفضول ، لما في ذلك من المصالح الظاهرة ، فإن قيل لو اجتمع مضطران ، فهل يجوز أن يطعمه أحدهما أم يجب فضه عليها ، فالمختار أن تخصيص أحدهما غير جائز لما ذكرته من أن أحدهما قد يكون وليا لله تعالى ، ولأن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإنصاف ، والعدل التسوية ، فدفعه إليهما عدل وإنصاف وإحسان مندرج في قوله تعالى : { وجد المكلف مضطرين متساويين ومعه رغيف لو أطعمه لأحدهما لعاش يوما ولو أطعم كل واحد منهما نصفه لعاش نصف يوم إن الله يأمر بالعدل والإحسان } .
وكذلك لو وجد محتاجين فإنه يندب إلى فض الرغيف عليهما ، وألا يخص أحدهما به لما ذكرته ، ولأن تخصيص أحدهما موغر لصدر الآخر مؤذ له .
وكذلك لو فإنه يفضه عليهما تسوية بينهما ، فإن قيل إذا كان نصف الرغيف شبعا لأحد ولديه سادا لنصف جوعة الآخر فكيف يفضه عليهما ؟ قلت يفضه عليهما بحيث يسد من جوعة أحدهما ما يسد من جوعة الآخر ، فإذا كان ثلث الرغيف سادا لنصف جوعة أحدهما ، وثلثاه سادا لنصف جوعة الآخر فليوزعه عليهما كذلك ، لأن هذا هو الإنصاف ، كما أنه يجب عليه مع القدرة إشباع كل واحد منهما مع اختلاف مقدار كليهما ، فكذلك هذا ، لأن الغرض الأعظم إنما هو كفاية البدن في التغذية . كان له ولدان لا يقدر إلا على قوت أحدهما
وكذلك يجب أن يطعم الكبير الرغيب أكثر مما يطعم الصغير الزهيد ، ولمثل هذا يعطى الراجل سهما [ ص: 70 ] واحدا من الغنائم ويعطى الفارس ثلاثة أسهم ، دفعا لحاجتيهما ، فإن الراجل يأخذ سهما لحاجته ، والفارس يأخذ أقوى الأسهم لحاجته والسهم الثاني لفرسه والسهم الثالث لسائس فرسه ، فيسوى بينهما في المال الذي أخذ بسبب القتال .
فإن قيل لم قسم مال المصالح على الحاجات دون الفضائل ؟ قلنا ذهب رضي الله عنه إلى قسمته على الفضائل ترغيبا للناس في الفضائل الدينية ، وخالفه عمر رضي الله عنه في ذلك لما التمس منه تفضيل السابقين على اللاحقين فقال : إنما أسلموا لله وأجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ . ومعنى هذا أني لا أعطيهم على إسلامهم وفضائلهم التي يتقربون بها إلى الله شيئا من الدنيا ، لأنهم فعلوها لله ، وقد ضمن الله لهم أجرها في الآخرة ، وإنما الدنيا بلاغ ودفع للحاجات ، فأضع الدنيا حيث وضعها الله من دفع الحاجات وسد الخلات ، والآخرة موضوعة للجزاء على الفضائل فأضعها حيث وضعها الله ، ولا أعطي أحدا على سعيها شيئا من متاع الدنيا ، وبذلك قال أبو بكر رحمه الله . الشافعي
فإن قيل فهلا قسمت الغنائم كذلك إذا كان الفارس لا عيال له والراجل له عيال كثير ؟ قلنا لما حصل ذلك بكسب الغانمين وسعيهم فضلوا على قدر عنائهم فيه ولا شك أن عناء الفرسان في القتال أكمل من عناء الرجالة .
فإن قيل هلا قدر رحمه الله تعالى نفقات الزوجات بالحاجات كنفقة الآباء والأمهات والبنين والبنات ولم قدرها بالأمداد ؟ قلنا لما كانت النفقة عوضا عن البضع قدرها لأن الأصل في الأعواض التقدير ، وله قول إنها مقدرة بالمعروف لنفقة الأقارب ، وعملا بقوله عليه السلام [ ص: 71 ] الشافعي لهند : { } ، ولم تكن خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف هند عارفة بكون المعروف مدين في حق الغني ومدا في حق الفقير ومدا ونصفا في حق المتوسط ، وقد نص الله على أن الكسوة بالمعروف في قوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } .
وكذلك السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير ، والغالب في كل ما ورد في الشرع إلى المعروف أنه غير مقدر ، وأنه يرجع فيه إلى ما عرف في الشرع ، أو إلى ما يتعارفه الناس ، ولا فائدة في تقدير الحب فإن ما يضم إليه من مؤنة إصلاحه مجهول ، والمجهول إذا ضم إلى المعلوم صار الجميع مجهولا ، ولم يعهد في السلف ولا في الخلف أن أحدا أنفق الحب على زوجته مع مؤنته ، بل المعهود منهم الإنفاق على ما جرت به العادة . والذي قاله مؤد إلى أن يموت كل واحد ونفقة زوجته في ذمته ، لأن المعاوضة عن الحب الذي أوجبه بما يطعمه الرجل زوجته من الخبز واللحم وغيرهما ربا لا يصح في الشرع ، ولا يجوز أن يكون عوضا ، ولو جاز أن يكون عوضا لم يبر من النفقة لأنه لم يتعاقد عليه الزوجان ، وما بلغنا أن أحدا أطعم زوجته على العادة ثم أوصى بأن توفى نفقتها حبا من ماله ، ولا حكم بذلك حاكم على أحد من الأزواج بعد موته ، وليست النفقة في مقابلة ملك البضع وإنما هي في مقابلة التمكين ، والبضع مقابل بالصداق فتكون نفقة المرأة كنفقة العبد المشترى ، فإن الثمن في مقابلة رقبته ، والنفقة جارية بسبب ذلك الملك . الشافعي
فصل في بيان العدل ، من جهة أنه سوى بين المنفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم [ ص: 72 ] لأن دفع الحاجات هو المقصود الأعظم في النفقات وغيرها من أموال المصالح . تقدير النفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية
فإن قيل : إذا كان العدل في اللغة هو التسوية ، والقاضي لا يسوي بين الخصوم في قبول قولهم ، بل يقبل قول المدعى عليه مع يمينه ولا يقبل قول المدعي إلا بعد نكول المدعى عليه .
وكذلك وظف البينة على المدعي وهذا تفاوت لا تسوية فيه . قلنا معنى التسوية في الحكم وجميع الولايات أنه يسوي بين المدعين في العمل بالظاهر في توظيف البينة على المدعين ، والأيمان على المنكرين ، ورد الأيمان على المدعين عند نكول المنكرين .
وكذلك التسوية بين من يقبل قوله من المدعين فيما وظف عليهم كالولي في القسامة ، والزوج في اللعان ، والأمناء في قبول قولهم في التلف ، والمدعين في قبول قولهم في الرد . وحاصل هذا كله التسوية في الأحكام عند التساوي في الأسباب .
واعلم أن لما ذكرناه من العدل واجتناب إيغار الصدور ، ، لأن تقديم أحد الخصمين موجب لإيغار صدر الآخر وحقده ، ولا يجري ذلك في حق المسلم والكافر ، لأن جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته وأوجبت بغضه وإذلاله ، كما يظهر بالغبار وإظهار الصغار ، فإن قيل لو يجب على الحكام التسوية بين الخصوم في الإعراض والإقبال وغير ذلك ؟ قلنا . إن تساويا في الصلاح والتوقان إلى النكاح تخير بينهما وقد يقرع ، وإن تساويا في الصلاح - واختلفا في التوقان قدم أتوقهما ، وإن خف توقان الصالحة وزاد توقان الطالحة ففي هذا نظر واحتمال ، والذي أراه تقديم الطالحة درءا لما يتوقع من فجورها . خطب إلى الولي إحدى ابنتيه فهل يتخير في تزويج أيتهما شاء أو يبدأ بإحداهما
وأما الصالحة فيزعها صلاحها عن الفجور . وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل [ ص: 73 ] وغيره أحب إليه منه خيفة أن يكب في النار على وجهه ، لأن تقى المتقي يزعه عن العصيان ، وفجور الفاجر يوقعه في الإثم والعدوان .