والاحتجاج بحديث القلتين مبني على ثبوت عدة مقامات:
الأول: صحة سنده.
الثاني: ثبوت وصله، وأن إرساله غير قادح فيه.
[ ص: 50 ] الثالث: ثبوت رفعه، وأن وقف من وقفه ليس بعلة.
الرابع: أن الاضطراب الذي وقع في سنده لا يوهنه.
الخامس: أن القلتين مقدرتان بقلال هجر.
السادس: أن قلال هجر متساوية المقدار ليس فيها كبار وصغار.
السابع: أن القلة مقدرة بقربتين حجازيتين، وأن قرب الحجاز لا تتفاوت.
الثامن: أن المفهوم حجة.
التاسع: أنه مقدم على العموم.
العاشر: أنه مقدم على القياس الجلي.
الحادي عشر: أن المفهوم عام في سائر صور المسكوت عنه.
الثاني عشر: أن ذكر العدد خرج مخرج التحديد والتقييد.
الثالث عشر: الجواب عن المعارض.
ومن جعلهما خمسمائة رطل احتاج إلى: مقام رابع عشر: وهو أنه يجعل الشيء نصفا احتياطا.
ومقام خامس عشر: أن ما وجب به الاحتياط صار فرضا.
قال المحددون: الجواب عما ذكرتم:
أما صحة سنده فقد وجدت; لأن رواته ثقات، ليس فيهم مجروح ولا متهم، وقد سمع بعضهم من بعض; ولهذا صححه ابن خزيمة [ ص: 51 ] والحاكم والطحاوي وغيرهم.
* وأما وصله، فالذين وصلوه ثقات، وهم أكثر من الذين أرسلوه، فهي زيادة من ثقة، ومعها الترجيح.
* وأما رفعه، فكذلك، وإنما وقفه على مجاهد فإذا كان ابن عمر، قد سمعه منه موقوفا لم يمنع ذلك سماع مجاهد عبيد الله وعبد الله له من مرفوعا. ابن عمر
فإن قلنا: الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقة، فلا كلام.
وإن قلنا: هي اختلاف وتعارض، فعبيد الله أولى في أبيه من لملازمته له وعلمه بحديثه، ومتابعة عبد الله له. مجاهد،
* وأما قولكم: إنه مضطرب، فمثل هذا الاضطراب لا يقدح فيه; إذ لا مانع من سماع له من الوليد بن كثير محمد بن عباد ومحمد بن جعفر، كما قال قد صح أن الدارقطني: رواه عنهما جميعا، فحدث به الوليد بن كثير أبو أسامة، عن الوليد على الوجهين. وكذلك لا مانع من رواية عبيد الله وعبد الله له جميعا عن أبيهما، فرواه المحمدان، عن هذا تارة، وعن هذا تارة.
* وأما تقدير القلتين بقلال هجر، فقد قال نا الشافعي: مسلم بن خالد، عن بإسناد لا يحضرني ذكره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن جريج . وقال في الحديث إذا كان [ ص: 52 ] الماء قلتين لم يحمل خبثا . بقلال هجر
وقال أخبرني ابن جريج: محمد، عن يحيى بن عقيل أخبره، أن يحيى بن يعمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ، قال: فقلت إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ولا بأسا ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ قال: قلال هجر، قال: فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين.
قال ابن عدي: محمد هذا: هو محمد بن يحيى، يحدث عن يحيى بن أبي كثير ويحيى بن عقيل.
قالوا: وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها لهم في حديث المعراج، وقال في سدرة المنتهى: [ ص: 53 ] فدل على أنها معلومة عندهم. وقد قال فإذا نبقها مثل قلال هجر يحيى بن آدم، ووكيع، وابن إسحاق: القلة: الجرة. وكذلك قال القلتان: الجرتان. مجاهد:
* وأما كونها متساوية المقدار، فقد قال في "معالمه": "قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف المكاييل والصيعان" . وهو حجة في اللغة. الخطابي
* وأما تقديرها بقرب الحجاز، فقد قال ابن جريج: رأيت القلة تسع قربتين. حجازي، إنما أخبر عن قرب الحجاز، لا وابن جريج العراق ولا الشام ولا غيرهما.
* وأما كونها لا تتفاوت، فقال الخطابي: "القرب المنسوبة إلى البلدان المحذوة على مثال واحد"، يريد أن قرب كل بلد على قدر واحد، لا تختلف. قال: "والحد لا يقع بالمجهول" .
* وأما كون المفهوم حجة، فله طريقان:
أحدهما: التخصيص. والثاني: التعليل.
أما التخصيص، فهو أن يقال: تخصيص الحكم بهذا الوصف والعدد [ ص: 54 ] لا بد له من فائدة، وهي نفي الحكم عما عدا المنطوق.
وأما التعليل فيختص بمفهوم الصفة، وهو أن تعليق الحكم بهذا الوصف المناسب يدل على أنه علة له، فينتفي الحكم بانتفائها.
فإن كان المفهوم مفهوم شرط، فهو قوي; لأن المشروط عدم عند عدم شرطه وإلا لم يكن شرطا له.
* وأما تقديمه على العموم، فلأن دلالته خاصة، فلو قدم العموم عليه بطلت دلالته جملة، وإذا خص به العموم عمل بالعموم فيما عدا المفهوم، والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما.
كيف وقد تأيد المفهوم بحديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقته، وبحديث النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها عند القيام من نوم الليل؟.
* وأما تقديمه على القياس الجلي فواضح; لأن القياس عموم معنوي، فإذا ثبت تقديمه على العموم اللفظي فتقديمه على المعنوي بطريق الأولى، ويكون خروج صور المفهوم من مقتضى القياس، كخروجها من مقتضى لفظ [ ص: 55 ] العموم.
* وأما كون المفهوم عاما; فلأنه إنما دل على نفي الحكم عما عدا المنطوق بطريق سكوته عنه، ومعلوم أن نسبة السكوت إلى جميع الصور واحدة، فلا يجوز نفي الحكم، عن بعضها دون بعض للتحكم، ولا إثبات حكم المنطوق لها لإبطال فائدة التخصيص، فتعين نفيه عن جميعها.
* وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد; فلأنه عدد صدر من الشارع، فكان تحديدا وتقييدا، كالخمسة الأوسق، والأربعين من الغنم، والخمس من الإبل، والثلاثين من البقر، وغير ذلك، إذ لا بد للعدد من فائدة، ولا فائدة له إلا التحديد.
* وأما الجواب عن المعارض، فليس معكم إلا عموم لفظي، أو عموم معنوي وهو القياس، وقد بينا تقديم المفهوم عليهما.
* وأما جعل الشيء نصفا; فلأنه قد شك فيه، فجعلناه نصفا احتياطيا، والظاهر أنه لا يكون أكثر منه، ويحتمل النصف فما دون، فتقديره بالنصف أولى.
* وأما كون ما وجب به الاحتياط يصير فرضا; لأن هذا حقيقة الاحتياط، كإمساك جزء من الليل مع النهار، وغسل جزء من الرأس مع الوجه.
[ ص: 56 ] فهذا تمام تقرير هذا الحديث سندا ومتنا، ووجه الاحتجاج به.