الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              وأيضا: فلو أراد صلى الله عليه وسلم النهي عن استعمال الماء الدائم اليسير إذا وقعت فيه أي نجاسة كانت، لأتى بلفظ يدل عليه، ونهيه عن الغسل فيه بعد البول لا يدل على مقدار ولا تنجيس، فلا يحمل ما لا يحتمله.

                                                              ثم إن كل من قدر الماء المتنجس بقدر خالف ظاهر الحديث، فأصحاب الحركة خالفوه، بأن قدروه بما لا يتحرك طرفاه، وأصحاب النزح خصوه بما لا يمكن نزحه، وأصحاب القلتين خصوه بمقدار القلتين.

                                                              وأسعد الناس بالحديث من حمله على ظاهره ولم يخصه ولم يقيده، بل إن كان تواتر الأبوال فيه يفضي إلى إفساده منع من جوازها، وإلا منع من اغتساله في موضع بوله كالبحر، ولم يمنع من بوله في مكان واغتساله في غيره.

                                                              وكل من استدل بظاهر هذا الحديث على نجاسة الماء الدائم لوقوع النجاسة فيه، فقد ترك من ظاهر الحديث ما هو أبين دلالة مما قال به، وقال بشيء لا يدل عليه لفظ الحديث; لأنه إن عمم النهي في كل ماء بطل [ ص: 71 ] استدلاله بالحديث، وإن خصه بقدر خالف ظاهره، وقال ما لا دليل عليه، ولزمه أن يجوز البول فيما عدا ذلك القدر وهذا لا يقوله أحد. فظهر بطلان الاستدلال بهذا الحديث على التنجيس بمجرد الملاقاة على كل تقدير.

                                                              وأما من قدره بالحركة، فيدل على بطلان قوله: أن الحركة مختلفة اختلافا لا ينضبط، والبول قد يكون قليلا وكثيرا، ووصول النجاسة إلى الماء أمر حسي، وليس تقديره بحركة الطهارة الصغرى أو الكبرى أولى من سائر أنواع الحركات.

                                                              فيا لله للعجب! حركة الطهارة ميزان وعيار على وصول النجاسة وسريانها، مع شدة اختلافها! ونحن نعلم بالضرورة أن حركة المغتسل تصل إلى موضع لا تصل إليه القطرة من البول، ونعلم أن البولة الكبيرة تصل إلى مكان لا تصل إليه الحركة الضعيفة، وما كان هكذا لم يجز أن يجعل حدا فاصلا بين الحلال والحرام.

                                                              والذين قدروه بالنزح أيضا قولهم باطل، فإن العسكر العظيم يمكنهم نزح ما لا يمكن الجماعة القليلة نزحه.

                                                              وأما حديث ولوغ الكلب، فقالوا: لا يمكنكم أن تحتجوا به علينا، فإنه ما منكم إلا من خالفه أو قيده أو خصصه فخالف ظاهره، فإن احتج به علينا من لا يوجب التسبيع ولا التراب، كان احتجاجه باطلا، فإن الحديث إن كان حجة له في التنجيس بالملاقاة، فهو حجة عليه في العدد والتراب. فأما أن يكون حجة له فيما وافق مذهبه، ولا يكون حجة عليه فيما خالفه فكلا.

                                                              [ ص: 72 ] ثم هم يخصونه بالماء الذي لا تبلغ الحركة طرفيه، وأين في الحديث ما يدل على هذا التخصيص؟! ثم يظهر تناقضهم من وجه آخر: وهو أنه إذا كان الماء رقيقا جدا، وهو منبسط انبساطا لا تبلغه الحركة: أن يكون طاهرا ولا يؤثر الولوغ فيه، وإذا كان عميقا جدا وهو متضايق، بحيث تبلغ الحركة طرفيه: أن يكون نجسا، ولو كان أضعاف أضعاف الأول. وهذا تناقض بين لا محيد عنه.

                                                              قالوا: وإن احتج به من يقول بالقلتين فإنه يخصصه بما دون القلتين، ويحمل الأمر بغسله وإراقته على هذا المقدار، ومعلوم أنه ليس في اللفظ ما يشعر بهذا بوجه ولا يدل عليه بواحدة من الدلالات الثلاث.

                                                              وإذا كان لا بد لهم من تقييد الحديث وتخصيصه، ومخالفة ظاهره كان أسعد الناس به من حمله على الولوغ المعتاد في الآنية المعتادة التي يمكن إراقتها، وهو ولوغ متتابع في آنية صغار، يتحلل من فم الكلب في كل مرة ريق ولعاب نجس يخالط الماء، ولا يخالف لونه لونه، فيظهر فيه التغير، فتكون أعيان النجاسة قائمة بالماء، وإن لم تر، فأمر بإراقته وغسل الإناء.

                                                              فهذا المعنى أقرب إلى الحديث وألصق به، وليس في حمله عليه ما يخالف ظاهره، بل الظاهر أنه إنما أراد الآنية المعتادة التي تتخذ للاستعمال فيلغ فيها الكلاب. فإن كان حمله على هذا موافقة للظاهر فهو المقصود. وإن كان مخالفة للظاهر، فلا ريب أنه أقل مخالفة من حمله على الأقوال المتقدمة. فيكون أولى على التقديرين.

                                                              قالوا: وأما حديث النهي عن غمس اليد في الإناء عند القيام من نومه، فالاستدلال به أضعف من هذا كله، فإنه ليس في الحديث ما يدل على [ ص: 73 ] نجاسة الماء.

                                                              وجمهور الأمة على طهارته، والقول بنجاسته من أشذ الشاذ، وكذا القول بصيرورته مستعملا ضعيف أيضا، وإن كان إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي وأتباعه، واختيار أبي بكر وأصحاب أحمد، فإنه ليس في الحديث دليل على فساد الماء. وقد بينا أن النهي عن البول فيه لا يدل على فساده بمجرد البول، فكيف بغمس اليد فيه من النوم؟

                                                              وقد اختلف في النهي عنه، فقيل: تعبد، ويرد هذا القول: أنه معلل في الحديث بقوله: فإنه لا يدري أين باتت يده؟ .

                                                              وقيل: معلل باحتمال النجاسة، كبثرة في يديه، أو مباشرة اليد لمحل الاستجمار. وهو ضعيف أيضا، لأن النهي عام للمستنجي والمستجمر، والصحيح وصاحب البثرات، فيلزمكم أن تخصوا النهي بالمستجمر، وصاحب البثور! وهذا لم يقله أحد.

                                                              وقيل -وهو الصحيح-: أنه معلل بخشية مبيت الشيطان على يده، أو مبيتها عليه. وهذه العلة نظير تعليل صاحب الشرع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم، فإنه قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه متفق عليه. وقال هنا: فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده؟ ، فعلل بعدم الدراية بمحل المبيت. وهذا السبب ثابت في مبيت الشيطان على الخيشوم، فإن اليد إذا باتت [ ص: 74 ] ملابسة للشيطان لم يدر صاحبها أين باتت. وفي مبيت الشيطان على الخيشوم وملابسته لليد سر يعرفه من عرف أحكام الأرواح، واقتران الشياطين بالمحال التي تلابسها، فإن الشيطان خبيث يناسبه الخبائث، فإذا نام العبد لم ير في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه، فيستوطنه في المبيت.

                                                              وأما ملابسته ليده، فلأنها أعم الجوارح كسبا وتصرفا ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرف والعمل بها، ولهذا سميت: جارحة; لأنه يجرح بها، أي يكسب. وهذه العلة لا يعرفها أكثر الفقهاء، وهي كما ترى وضوحا وبيانا. وحسبك شهادة النص لها بالاعتبار. والمقصود أنه لا دليل لكم في الحديث بوجه ما، والله أعلم.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية