الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              * قال المانعون من التحديد بالقلتين:

                                                              - أما قولكم: إنه قد صح سنده، فلا يفيد الحكم بصحته; لأن صحة السند شرط أو جزء سبب للعلم بالصحة لا موجب تام، فلا يلزم من مجرد صحة السند صحة الحديث ما لم ينتف عنه الشذوذ والعلة، ولم ينتفيا، عن هذا الحديث.

                                                              أما الشذوذ فإن هذا حديث فاصل بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، وهو في المياه كالأوسق في الزكاة، والنصب في الزكاة، فكيف لا يكون مشهورا شائعا بين الصحابة ينقله خلف عن سلف، لشدة حاجة الأمة إليه أعظم من حاجتهم إلى نصب الزكاة؟ فإن أكثر الناس لا تجب عليهم زكاة، والوضوء بالماء الطاهر فرض على كل مسلم، فيكون الواجب نقل هذا الحديث، كنقل نجاسة البول، ووجوب غسله، ونقل عدد الركعات، ونظائر ذلك.

                                                              ومن المعلوم: أن هذا لم يروه غير ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله، فأين نافع، وسالم، وأيوب، وسعيد بن جبير؟ وأين أهل المدينة وعلماؤهم، عن هذه السنة التي مخرجها من عندهم، وهم إليها أحوج الخلق، لعزة الماء عندهم؟ [ ص: 57 ] ومن البعيد جدا أن تكون هذه السنة عند ابن عمر وتخفى على علماء أصحابه وأهل بلدته، ولا يذهب إليها أحد منهم، ولا يروونها ويديرونها بينهم. ومن أنصف لم يخف عليه امتناع هذا، فلو كانت هذه السنة العظيمة المقدار عند ابن عمر لكان أصحابه وأهل المدينة أقول الناس بها وأرواهم لها. فأي شذوذ أبلغ من هذا؟

                                                              وحيث لم يقل بهذا التحديد أحد من أصحاب ابن عمر علم أنه لم يكن فيه عنده سنة من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه شذوذه.

                                                              - وأما علته: فمن ثلاثة أوجه:

                                                              أحدها: وقف مجاهد له على ابن عمر، واختلف فيه عليه، واختلف فيه على عبيد الله أيضا، رفعا ووقفا. ورجح شيخا الإسلام أبو الحجاج المزي، وأبو العباس ابن تيمية وقفه، ورجح البيهقي في سننه وقفه من طريق مجاهد، وجعله هو الصواب.

                                                              قال شيخنا أبو العباس: وهذا كله يدل على أن ابن عمر لم يكن يحدث به، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه، فنقل ابنه ذلك عنه.

                                                              قلت: ويدل على وقفه أيضا: أن مجاهدا - وهو العلم المشهور [ ص: 58 ] الثبت إنما رواه عنه موقوفا. واختلف فيه على عبيد الله وقفا ورفعا.

                                                              العلة الثانية: اضطراب سنده، كما تقدم.

                                                              العلة الثالثة: اضطراب متنه، فإنه في بعض ألفاظه: إذا كان الماء قلتين . وفي بعضها: إذا بلغ الماء قدر قلتين أو ثلاث . والذين زادوا هذه اللفظة ليسوا بدون من سكت عنها كما تقدم.

                                                              قالوا: وأما تصحيح من صححه من الحفاظ، فمعارض بتضعيف من ضعفه، وممن ضعفه حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر وغيره; ولهذا أعرض عنه أصحاب الصحيح جملة.

                                                              قالوا: وأما تقدير القلتين بقلال هجر، فلم يصح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء أصلا. وأما ما ذكره الشافعي فمنقطع، وليس قوله: بقلال هجر فيه: من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أضافه الراوي إليه، وقد صرح في الحديث أن التفسير بها من كلام يحيى بن عقيل. فكيف يكون بيان هذا الحكم العظيم، والحد الفاصل بين الحلال والحرام، الذي تحتاج إليه جميع الأمة لا يوجد إلا [ ص: 59 ] بلفظ شاذ بإسناد منقطع؟ وذلك اللفظ ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

                                                              قالوا: وأما ذكرها في حديث المعراج، فمن العجب أن يحال هذا الحد الفاصل على تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم نبق السدرة بها! وما الرابط بين الحكمين؟ وأي ملازمة بينهما؟ فلكونها معلومة عندهم معروفة لهم مثل لهم بها. وهذا من عجيب حمل المطلق على المقيد. والتقييد بها في حديث المعراج لبيان الواقع، فكيف يحمل إطلاق حديث القلتين عليه؟

                                                              وكونها معلومة لهم لا يوجب أن ينصرف الإطلاق إليها حيث أطلقت القلة، فإنهم كانوا يعرفونها ويعرفون غيرها.

                                                              والظاهر أن الإطلاق في حديث القلتين إنما ينصرف إلى قلال البلد التي هي أعرف عندهم، وهم لها أعظم ملابسة من غيرها، فالإطلاق إنما ينصرف إليها، كما ينصرف إطلاق النقد إلى نقد البلد دون غيره، هذا هو الظاهر، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بقلال هجر; لأنه هو الواقع في نفس الأمر، كما مثل بعض أشجار الجنة بشجرة بالشام تدعى الجوزة، دون النخل وغيره من [ ص: 60 ] أشجارهم، لأنه هو الواقع، لا لكون الجوز أعرف الأشجار عندهم. وهكذا التمثيل بقلال هجر; لأنه هو الواقع، لا لكونها أعرف القلال عندهم. هذا بحمد الله واضح.

                                                              وأما قولكم: إنها متساوية المقدار، فهذا إنما قاله الخطابي، بناه على أن ذكرهما تحديد، والتحديد إنما يقع بالمقادير المتساوية. وهذا دور باطل، وهو لم ينقله عن أهل اللغة - وهو الثقة في نقله - ولا أخبر به عن عيان.

                                                              ثم إن الواقع بخلافه، فإن القلال فيها الكبار والصغار في العرف العام أو الغالب، ولا تعمل بقالب واحد. ولهذا قال أكثر السلف: القلة: الجرة. وقال عاصم بن المنذر - أحد رواة الحديث: القلال: الخوابي العظام.

                                                              [ ص: 61 ] وأما تقديرها بقرب الحجاز فلا ننازعكم فيه، ولكن الواقع أنه قدر قلة من القلال بقربتين من القرب فرآها تسعهما، فهل يلزم من هذا أن كل قلة من قلال هجر تأخذ كل قربتين من قرب الحجاز؟ وأن قرب الحجاز كلها على قدر واحد، ليس فيها صغار وكبار؟

                                                              ومن جعلها متساوية فإنما مستنده أن قال: التحديد لا يقع بالمجهول، فيا سبحان الله! إنما يتم هذا أن لو كان التحديد مستندا إلى صاحب الشرع، فأما والتقدير بقلال هجر وقرب الحجاز تحديد يحيى بن عقيل وابن جريج، فكان ماذا؟!

                                                              وأما تقرير كون المفهوم حجة، فلا تنفعكم مساعدتنا عليه، إذ المساعدة على مقدمة من مقدمات الدليل لا تستلزم المساعدة على الدليل.

                                                              وأما تقديمكم له على العموم فممنوع، وهي مسألة نزاع بين الأصوليين والفقهاء، وفيها قولان معروفان. ومنشأ النزاع تعارض خصوص المفهوم وعموم النطق، فالخصوص يقتضي التقديم، والنطق يقتضي الترجيح، فإن رجحتم المفهوم بخصوصه، رجح منازعوكم العموم بمنطوقه.

                                                              ثم الترجيح معهم هاهنا للعموم من وجوه:

                                                              أحدها: أن حديثه أصح.

                                                              الثاني: أنه موافق للقياس الصحيح.

                                                              [ ص: 62 ] الثالث: أنه موافق لعمل أهل المدينة قديما وحديثا، فإنه لا يعرف عن أحد منهم أنه حد الماء بقلتين، وعملهم بترك التحديد في المياه عمل نقلي خلفا عن سلف، فجرى مجرى نقلهم الصاع والمد والأحباس، وترك أخذ الزكاة من الخضراوات، وهذا هو الصحيح المحتج به من إجماعهم، دون ما طريقه الاجتهاد والاستدلال، فإنهم وغيرهم فيه سواء، وربما ترجح غيرهم عليهم، وترجحوا هم على غيرهم.

                                                              فتأمل هذا الموضع.

                                                              فإن قيل: ما ذكرتم من الترجيح فمعنا من الترجيح ما يقابله، وهو أن المفهوم هنا قد تأيد بحديث النهي عن البول في الماء الراكد، والأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب، والأمر بغسل اليد من نوم الليل، فإن هذه الأحاديث تدل على أن الماء يتأثر بهذه الأشياء وإن لم يتغير، ولا سبيل إلى تأثر كل ماء بها، بل لا بد من تقديره، فتقديره بالقلتين أولى من تقديره بغيرهما; لأن التقدير بالحركة والأذرع المعينة، وما يمكن نزحه وما لا يمكن، تحكمات باطلة لا أصل لها، وهي غير منضبطة في نفسها، فرب حركة تحرك غديرا عظيما من الماء، وأخرى تحرك مقدارا يسيرا منه، [ ص: 63 ] بحسب المحرك والمتحرك. وكذا التقدير بالأذرع تحكم محض لا سنة ولا قياس، وكذا التقدير بالنزح الممكن مع عدم انضباطه، فإن عشرة آلاف مثلا يمكنهم نزح ما لا ينزحه عشرة، فلا ضابط له.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية