الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2185 2 - باب في طلاق السنة

                                                              169 \ 2098 - وعن أبي الزبير : أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى [ ص: 484 ] عروة يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع، قال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ قال : طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض؟ قال عبد الله : فردها علي ولم يرها شيئا، وقال : إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، قال ابن عمر : وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن .

                                                              وأخرجه النسائي .

                                                              وقال أبو داود: الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.

                                                              وقال الإمام الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير. والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه.

                                                              وقال أبو سليمان الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا. وقال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا.

                                                              وقال أبو عمر النمري : ولم يقله عنه أحد غير أبي الزبير. وقد رواه عنه جماعة جلة، فلم يقل ذلك واحد منهم. وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟ وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتا يحرم معه المراجعة، ولا تحل له إلا بعد زوج، أو لم يره شيئا جائزا في السنة [ ص: 485 ] قاضيا في حكم الاختيار، وإن كان لازما له على سبيل الكراهة، والله أعلم.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: وقد أخرج مسلم في "صحيحه " حديث أبي الزبير هذا بحروفه " إلا أنه لم يقل " ولم يرها شيئا " بل قال: " فردها "، وقال " إذا طهرت " إلى آخره.

                                                              وقد دل حديث ابن عمر هذا على أمور: منها: تحريم الطلاق في الحيض.

                                                              ومنها: أنه حجة لمن قال بوقوعه، قالوا: لأن الرجعة إنما تكون بعد الطلاق.

                                                              ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: لا معنى لوقوع الطلاق، والأمر بالمراجعة، فإنه لو لم يعد الطلاق، لم يكن لأمره بالرجعة معنى، بل أمره بارتجاعها، وهو ردها إلى حالها الأولى قبل تطليقها، دليل على أن الطلاق لم يقع.

                                                              قالوا: وقد صرح بهذا في حديث أبي الزبير المذكور آنفا. قالوا: وأبو الزبير ثقة في نفسه صدوق حافظ، إنما تكلم في بعض ما رواه عن جابر معنعنا لم يصرح بسماعه منه، وقد صرح في هذا الحديث بسماعه من ابن عمر، فلا وجه لرده.

                                                              قالوا: ولا يناقض حديثه ما تقدم من قول ابن عمر فيه: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقوله "فحسبت من طلاقها" ، لأنه ليس في ذلك لفظ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله " ولم يرها شيئا " مرفوع صريح في عدم الوقوع.

                                                              [ ص: 486 ] قالوا: وهذا مقتضى قواعد الشريعة؛ فإن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام، كان قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به، كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، ولا يرد على ذلك الظهار، فإنه لا يكون قط إلا حراما، لأنه منكر من القول وزور، فلو قيل لا يصح، لم يكن للظهار حكم أصلا.

                                                              قالوا: وكما أن قواعد الشريعة أن النهي يقتضي التحريم، فكذلك يقتضي الفساد، وليس معنا ما يستدل به على فساد العقد إلا النهي عنه.

                                                              قالوا: ولأن هذا طلاق منع منه صاحب الشرع، وحجر على العبد في إيقاعه، فكما أفاد منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للحجر فائدة، وإنما فائدة الحجر عدم صحة ما حجر على المكلف فيه.

                                                              قالوا: ولأن الزوج لو أذن له رجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا، فطلق غير ما أذن له فيه، لم ينفذ لعدم إذنه. والله سبحانه إنما أذن للعبد في الطلاق المباح، ولم يأذن له في المحرم، فكيف تصححون ما لم يأذن به، وتوقعونه، وتجعلونه من صحيح أحكام الشرع ؟!

                                                              قالوا: ولأنه لو كان الطلاق نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق بعده تكثيرا من الطلاق البغيض إلى الله، وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن من المراجعة معه. ومعلوم أنه لا مصلحة في ذلك.

                                                              قالوا: وإن مفسدة الطلاق الواقع في الحيض، لو كان واقعا، لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها، بل إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح، وترقع خرقه. فأما رجعة يعقبها طلاق، فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول، لو كان واقعا.

                                                              [ ص: 487 ] قالوا: وأيضا فما حرمه الله سبحانه من العقود، فهو مطلوب الإعدام بكل طريق حتى يجعل وجوده كعدمه في حكم الشرع، ولهذا كان ممنوعا من فعله، باطلا في حكم الشرع والباطل شرعا كالمعدوم.

                                                              ومعلوم أن هذا هو مقصود الشارع مما حرمه ونهى عنه، فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب، بخلاف ما إذا صحح، فإنه يثبت له حكم الوجود.

                                                              قالوا: ولأنه إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي، وهو الصحة. وإنما يفترقان في موجب ذلك من الإثم والذم ومعلوم أن الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه البتة.

                                                              قالوا: وأيضا فإنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح، فإذا نفذ وصح، وترتب عليه حكم الصحيح، كان ذلك عائدا على مقتضى النهي بالإبطال.

                                                              قالوا: وأيضا فالشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه، فإن ما نهى عنه الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة، فنهى عنه قصدا لإعدام تلك المفسدة. فلو حكم بصحته ونفوذه لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها، وإثباتا لها.

                                                              قالوا: وأيضا فالعقد الصحيح هو الذي يترتب عليه أثره، ويحصل منه مقصوده. وهذا إنما يكون في العقود التي أذن فيها الشارع، وجعلها أسبابا لترتب آثارها عليها، فما لم يأذن فيه ولم يشرعه كيف يكون سببا لترتب آثاره عليه، ويجعل كالمشروع المأذون في ذلك؟!

                                                              قالوا: وأيضا فالشارع إنما جعل للمكلف مباشرة الأسباب فقط، وأما [ ص: 488 ] أحكامها المترتبة عليها فليس إلى المكلف، وإنما هو إلى الشارع، فهو نصب الأسباب وجعلها مقتضيات لأحكامها، وجعل السبب مقدورا للعبد، فإذا باشره رتب عليه الشارع أحكامه.

                                                              فإذا كان السبب محرما كان ممنوعا منه، ولم ينصبه الشارع مقتضيا لآثار السبب المأذون فيه، والحكم ليس إلى المكلف حتى يكون إيقاعه إليه والسبب الذي إليه غير مأذون فيه، ولا نصبه الشارع لترتب الآثار عليه، فترتبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه، وهو قياس في غاية الفساد، إذ هو قياس أحد النقيضين على الآخر في التسوية بينهما في الحكم، ولا يخفى فساده.

                                                              قالوا: وأيضا فصحة العقد هو عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكلف عليه، وهذا الترتب نعمة من الشارع، أنعم بها على العبد، وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها، فإذا كان السبب محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية، فكيف تكون المعصية سببا لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها؟!

                                                              قالوا: وقد علل من أوقع الطلاق، وأوجب الرجعة إيجاب الرجعة بهذه العلة بعينها وقالوا: أوجبنا عليه الرجعة معاملة له بنقيض قصده، فإنه ارتكب أمرا محرما، يقصد به الخلاص من الزوجة، فعومل بنقيض قصده، فأمر برجعتها.

                                                              قالوا: فما جعلتموه أنتم علة لإيجاب الرجعة، فهو بعينه علة لعدم وقوع الطلاق الذي قصده المكلف بارتكابه ما حرم الله عليه.

                                                              ولا ريب أن دفع وقوع الطلاق أسهل من رفعه بالرجعة، فإذا اقتضت هذه العلة رفع أثر [ ص: 489 ] الطلاق بالرجعة، فلأن تقتضي دفع وقوعه أولى وأحرى.

                                                              قالوا: وأيضا فلله تعالى في الطلاق المباح حكمان:

                                                              أحدهما: إباحته والإذن فيه.

                                                              والثاني: جعله سببا للتخلص من الزوجة.

                                                              فإذا لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول، وهو الإباحة، فما الموجب لبقاء الحكم الثاني، وقد ارتفع سببه؟! ومعلوم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع، ولا تصح دعوى أن الطلاق المحرم سبب لما تقدم.

                                                              قالوا: وأيضا فليس في لفظ الشارع " يصح كذا ولا يصح "، وإنما يستفاد ذلك من إطلاقه ومنعه، فما أطلقه وأباحه فباشره المكلف حكم بصحته، بمعنى أنه وافق أمر الشارع فصح، وما لم يأذن فيه ولم يطلقه فباشره المكلف حكم بعدم صحته، بمعنى أنه خالف أمر الشارع وحكمه.

                                                              وليس معنا ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة الأمر والإذن، وعدم موافقتهما. فإن حكمتم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته، لم يبق طريق إلى معرفة الصحيح من الفاسد، إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم، فإذا جوزتم ثبوت الصحة مع التحريم، فبأي شيء تستدلون بعد ذلك على فساد العقد وبطلانه؟!

                                                              قالوا: وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ، [ ص: 490 ] وفي لفظ: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، والرد فعل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد.

                                                              وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكمه المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه ردا أبلغ من كونه باطلا، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو لما منفعته قليلة جدا ،وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجد شيئا ولم يترتب عليه مقصوده أصلا.

                                                              قالوا: فالمطلق في الحيض قد طلق طلاقا ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردودا، فلو صح ولزم لكان مقبولا منه، وهو خلاف النص.

                                                              قالوا: وأيضا فالشارع أباح للمكلف من الطلاق قدرا معلوما في زمن مخصوص، ولم يملكه أن يتعدى القدر الذي حد له، ولا الزمن الذي عين له، فإذا تعدى ما حد له من العدد كان لغوا باطلا، فكذلك إذا تعدى ما حد له من الزمان يكون لغوا باطلا، وإلا فكيف يكون عدوانه في الوقت صحيحا معتبرا لازما، وعدوانه أنه في العدد لغوا باطلا ؟

                                                              [ ص: 491 ] قالوا: وهذا كما أن الشارع حد له عددا من النساء معينا في وقت معين، فلو تعدى ما حد له من العدد كان لغوا وباطلا. وكذلك لو تعدى ما حد له من الوقت، بأن ينكحها قبل انقضاء العدة مثلا، أو في وقت الإحرام، فإنه يكون لغوا وباطلا. فقد شمل البطلان نوعي التعدي عددا ووقتا.

                                                              قالوا: وأيضا فالصحة إما أن تفسر بموافقة أمر الشارع، وإما أن تفسر بترتب أثر الفعل عليه، فإن فسرت بالأول لم يكن تصحيح هذا الطلاق ممكنا، وإن فسرت بالثاني وجب أيضا أن لا يكون العقد المحرم صحيحا، لأن ترتب الثمرة على العقد إنما هو بجعل الشارع العقد كذلك، ومعلوم أنه لم يعتبر العقد المحرم، ولم يجعله مثمرا لمقصوده، كما مر تقديره.

                                                              قالوا: وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة، مع كونه منشئا للمفسدة ومشتملا على الوصف المقتضي لتحريمه وفساده جمع بين النقيضين ، فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة، والعقد المحرم لا مصلحة فيه، بل هو منشئ لمفسدة خالصة أو راجحة. فكيف تنشأ الصحة من شيء هو منشأ المفسدة.

                                                              قالوا: وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع، أو من قياسه، أو من توارد عرفه في مجال حكمه بالصحة، أو من إجماع الأمة.

                                                              ولا يمكن إثبات شيء من ذلك في محل النزاع، بل نصوص الشرع [ ص: 492 ] تقتضي رده وبطلانه، كما تقدم، وكذلك قياس الشريعة كما ذكرناه، وكذلك استقراء موارد عرف الشرع في مجال الحكم بالصحة، إنما يقتضي البطلان في العقد المحرم لا الصحة، وكذلك الإجماع، فإن الأمة لم تجمع قط - ولله الحمد - على صحة شيء حرمه الله ورسوله، لا في هذه المسألة ولا في غيرها، فالحكم بالصحة فيها إلى أي دليل يستند.

                                                              قالوا: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها فهذا حجة لنا على عدم الوقوع، لأنه لما طلقها - والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه - أمره بأن يراجعها ويمسكها، فإن هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعا، ولا تخرج المرأة عن الزوج بسببه، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه النعمان غلاما " رده ".

                                                              ولا يدل أمره إياه برده على أن الولد قد ملك الغلام، وأن الرد إنما يكون بعد الملك، فكذلك أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق، بل لما ظن ابن عمر جواز هذا الطلاق فأقدم عليه قاصدا لوقوعه، رد إليه النبي صلى الله عليه وسلم امرأته، وأمره أن يردها.

                                                              ورد الشيء إلى ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه عن ملكه شرعا، كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها، ويقال للغاصب: ردها إليه، ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها. وكذلك إذا قيل: رد على فلان ضالته، ولما باع على أحد الغلامين الأخوين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " رده، رده " وهذا أمر [ ص: 493 ] بالرد حقيقة.

                                                              قالوا: فقد وفينا اللفظ حقيقته التي وضع لها.

                                                              قالوا: وأيضا فقد صرح ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه ولم يرها شيئا وتعلقكم على أبي الزبير مما لا متعلق فيه، فإن أبا الزبير إنما يخاف من تدليسه، وقد صرح هذا بالسماع كما تقدم، فدل على أن الأمر بمراجعتها لا يستلزم نفوذ الطلاق.

                                                              قالوا: والذي يدل عليه أن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: " لا يعتد بذلك "، ذكره الإشبيلي في "الأحكام" من طريق محمد بن عبد السلام الخشني قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال، في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد بذلك .

                                                              [ ص: 494 ] وذكره ابن حزم في كتاب "المحلى" بإسناده من طريق الخشني. وهذا إسناد صحيح.

                                                              قالوا: وقد روى الدارقطني في "سننه" بإسناد شيعي، عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر، عن رجل طلق امرأته ثلاثا، وهي حائض ؟ فقال لي: أتعرف عبد الله بن عمر ؟ قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم [وهي حائض] فردها رسول الله إلى السنة ، قال الدارقطني: كلهم شيعة، ولم يزد على هذا.

                                                              ولكن هذا الحديث باطل قطعا، ولا يحتج به، وإنما ذكرناه للتعريف بحاله، ولو كان إسناده ثقات لكان غلطا، فإن المعروف من رواية الإثبات، عن ابن عمر أنه إنما طلق تطليقة واحدة، كما رواه مسلم في "الصحيح" من حديث يونس بن جبير.

                                                              ولكن لو حاكمنا منازعينا إلى ما يقرون به من أن رواية أهل البدع مقبولة، فكم في "الصحيح" من رواية الشيعة الغلاة، والقدرية، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم، لم يتمكنوا من الطعن في هذا الحديث بأن رواته شيعة، إذ مجرد كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم.

                                                              [ ص: 495 ] وبعد ففي معارضته بحديث يونس بن جبير " أنه طلقها تطليقة " كلام ليس هذا موضعه، فإن من جعل الثلاث واحدة قال: هي ثلاث في اللفظ، وهي واحدة في الحكم، على ما في حديث أبي الصهباء، عن ابن عباس. والله أعلم.

                                                              قالوا: وأما قولكم: إن نافعا أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص، فروايته أولى أن نأخذ بها، فهذا إنما يحتاج إليه عند التعارض، فكيف ولا تعارض بينهما ؟ فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تحسب عليه، وأما نافع فرواياته ليس فيها شيء صريح قط، أن النبي صلى الله عليه وسلم حسبها عليه، بل مرة قال " فمه " أي فما يكون ؟ وهذا ليس بإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حسبها، ومرة قال " أرأيت إن عجز واستحمق ؟ " وهذا رأي محض، ومعناه أنه [ ص: 496 ] ركب خطة عجز، واستحمق، أي ركب أحموقة وجهالة، فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه.

                                                              ومعلوم أنه لو كان عند ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم حسبها عليه لم يحتج أن يقول للسائل: " أرأيت إن عجز واستحمق ؟ "، فإن هذا ليس بدليل على وقوع الطلاق، فإن من عجز واستحمق يرد إلى العلم والسنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يظن بابن عمر أنه يكتم نصا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بتلك الطلقة، ثم يحتج بقوله: " أرأيت إن عجز واستحمق "، وقد سأله مرة رجل، عن شيء فأجابه بالنص، فقال السائل: أرأيت إن كان كذا وكذا ؟ قال: " اجعل أرأيت باليمن "، ومرة قال: " تحسب من طلاقها "، وهذا قول نافع، ليس قول ابن عمر، كذلك جاء مصرحا به في هذا الحديث في "الصحيحين"، قال عبد الله لنافع: " ما فعلت التطليقة ؟ قال: واحدة أعتد بها " ، وفي بعض ألفاظه: فحسبت بتطليقة ، وفي لفظ للبخاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: فحسبت علي بتطليقة .

                                                              ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه، وخالفه نافع وأنس بن سيرين ويونس بن جبير وسائر الرواة، عن ابن عمر، فلم يذكروا: [ ص: 497 ] " فحسبت علي "، وانفراد ابن جبير بها، كانفراد أبي الزبير بقوله " ولم يرها شيئا "، فإن تساقطت الروايتان لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع، وإن رجح إحداهما على الأخرى فرواية أبي الزبير صريحة في الرفع، ورواية سعيد بن جبير غير صريحة في الرفع، فإنه لم يذكر فاعل الحساب، فلعل أباه رضي الله عنه حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، وحسبه عليهم، اجتهادا منه، ومصلحة رآها للأمة، لئلا يتتايعوا في الطلاق المحرم، فإذا علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم أمسكوا عنه، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا في لفظ واحد، فلما رأى عمر الناس قد أكثروا منه رأى إلزامهم به، والاحتساب عليهم به.

                                                              قالوا: وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في هذا الباب، ويتبين وجهها، ويزول عنها التناقض والاضطراب، ويستغنى عن تكلف التأويلات المستكرهة لها، ويتبين موافقتها لقواعد الشرع وأصوله.

                                                              قالوا: وهذا الظن بعمر رضي الله عنه أنه إذا احتسب على الناس بالطلاق الثلاث احتسب على ابنه بتطليقته التي طلقها في الحيض، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئا مثل كون الطلاق الثلاث على عهده كان واحدة.

                                                              وإلزام عمر [ ص: 498 ] الناس بذلك، كإلزامه له بهذا، وأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن ذلك كان تخفيفا ورفقا بالأمة، لقلة إيقاعهم الطلاق وعدم تتايعهم فيه، فلما أكثروا منه وتتايعوا فيه ألزمهم بما التزموه.

                                                              وهذا كما أداه اجتهاده في الجلد في الخمر ثمانين، وحلق الرأس فيه والنفي، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد فيه أربعين، ولم يحلق فيه رأسا، ولم يغرب، فلما رأى الناس قد أكثروا منه، واستهانوا بالأربعين ضاعفها عليهم، وحلق ونفى. ولهذا نظائر كثيرة ستذكر في موضع آخر إن شاء الله.

                                                              قالوا: وتوهم من توهم أنا خالفنا الإجماع في هذه المسألة غلط، فإن الخلاف فيها أشهر من أن يجحد، وأظهر من أن يستر.

                                                              وإذا كانت المسألة من موارد النزاع فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به ورسوله، من رد ما تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، دون تحكيم أحد من الخلق، قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا .

                                                              فهذه بعض كلمات المانعين من الوقوع، ولو استوفينا الكلام في المسألة لاحتملت سفرا كبيرا، فلنقتصر على فوائد الحديث.

                                                              قال الموقعون: وفيه دليل على أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي [ ص: 499 ] ورضا المرأة، لأنه جعل ذلك إليه، دون غيره، ودلالة القرآن على هذا أظهر من هذه الدلالة، قال تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فجعل الأزواج أحق بالرجعة من المرأة والولي.

                                                              واختلفوا في قوله " مره فليراجعها ": هل الأمر بالرجعة على الوجوب أو الاستحباب ؟

                                                              فقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأحمد في إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه: الأمر بالرجعة استحباب. قال بعضهم: لأن ابتداء النكاح إذا لم يكن واجبا فاستدامته كذلك.

                                                              وقال مالك في الأشهر عنه، وداود وأحمد في الرواية الأخرى: الرجعة واجبة للأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرما في هذا الزمن كان بقاء النكاح واستدامته فيه واجبا، وبهذا يبطل قولهم: إذا لم يجب ابتداء النكاح لم تجب استدامته، فإن الاستدامة هاهنا واجبة لأجل الوقت، فإنه لا يجوز فيه الطلاق.

                                                              قالوا: ولأن الرجعة إمساك، بدليل قوله الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فالإمساك مراجعتها في العدة، والتسريح تركها حتى تنقضي عدتها.

                                                              وإذا كانت الرجعة إمساكا، فلا ريب في وجوب إمساكها في زمن [ ص: 500 ] الحيض، وتحريم طلاقها، فتكون واجبة.

                                                              ثم اختلف الموجبون للرجعة في علة ذلك؛ فقالت طائفة: إنما أمره برجعتها ليقع الطلاق الذي أراده في زمن الإباحة، وهو الطهر الذي لم يمسسها فيه، فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي ترتبت عليه الأحكام هو الطلاق المحرم، والشارع لا يرتب الأحكام على طلاق محرم، فأمر برجعتها، ليطلقها طلاقا مباحا، يترتب عليه أحكام الطلاق.

                                                              وقالت طائفة: بل أمره برجعتها عقوبة له على طلاقها في زمن الحيض، فعاقبه بنقيض قصده، وأمره بارتجاعها، عكس مقصوده.

                                                              وقالت طائفة: بل العلة في ذلك أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلل بتطويل العدة، فأمر برجعتها ليزول المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله.

                                                              وقال بعض الموجبين: إن أبى رجعتها أجبر عليها، فإن امتنع ضرب وحبس، فإن أصر حكم عليه برجعتها، وأشهد أنه قد ردها عليه، فتكون امرأته، يتوارثان، ويلزمه جميع حقوقها، حتى يفارقها فراقا ثانيا، قاله أصبغ وغيره من المالكية.

                                                              ثم اختلفوا. فقال مالك: يجبر على الرجعة، وإن طهرت، ما دامت في العدة، لأنه وقت للرجعة. وقال أشهب: إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال، وإن كانت في العدة، لأنه لا يجب عليه [ ص: 501 ] إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه، فلا يجب عليه رجعتها فيه، إذ لو وجبت الرجعة في هذا الوقت لحرم الطلاق فيه.

                                                              وقوله صلى الله عليه وسلم: حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قال البيهقي: أكثر الروايات، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك فإن كانت الرواية عن سالم ونافع وابن دينار في أمره بأن يراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر "، محفوظة، فقد قال الشافعي: يحتمل أن يكون إنما أراد بذلك الاستبراء، أن يكون أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام، ثم حيض تام، ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها، أبالحمل هي أم بالحيض ؟ أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل، وهو غير جاهل ما صنع، أو يرغب فيمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه حاملا. آخر كلامه.

                                                              وأكثر الروايات في حديث ابن عمر مصرحة بأنه إنما أذن في طلاقها بعد أن تطهر من تلك الحيضة، ثم تحيض ثم تطهر، هكذا أخرجاه في "الصحيحين" من رواية نافع عنه، ومن رواية ابنه سالم عنه. وفي لفظ متفق عليه: [ ص: 502 ] ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها ، وفي لفظ آخر متفق عليه: مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها .

                                                              ففي تعدد الحيض والطهر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها، من رواية ابنه سالم ومولاه نافع، وعبد الله بن دينار وغيرهم، والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء.

                                                              ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به، فرواياتهم أولى، لأن نافعا مولاه أعلم الناس بحديثه، وسالم ابنه كذلك، وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه، وأرواهم عنه، فكيف يقدم اختصار أبي الزبير، ويونس بن جبير على هؤلاء ؟!

                                                              ومن العجب تعليل حديث أبي الزبير في ردها عليه من غير احتساب بالطلقة بمخالفة غيره له، ثم تقدم روايته التي سكت فيها، عن تعدد الحيض والطهر على رواية نافع وابن دينار وسالم ؟!

                                                              فالصواب الذي لا شك فيه أن هذه الرواية ثابتة محفوظة، ولذلك أخرجها أصحاب "الصحيحين".




                                                              الخدمات العلمية