القول في . صفة الجنة وأصناف نعيمها
اعلم أن تلك الدار التي عرفت همومها ، وغمومها تقابلها دار أخرى ، فتأمل نعيمها ، وسرورها ، فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة في الأخرى ، فاستثر الخوف من قلبك ، بطول الفكر في أهوال الجحيم ، واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم ، الموعود لأهل الجنان ، وسق نفسك بسوط الخوف ، وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم فتفكر في أهل الجنة ، وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر ، والعسل محفوفة بالغلمان ، والولدان ، مزينة بالحور العين ، من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان يمشين في درجات الجنان إذا اختالت إحداهن في مشيها ، حمل أعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ ، والمرجان ، شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان ، قاصرات الطرف عين ثم يطاف عليهم وعليهن ، بأكواب ، وأباريق ، وكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين ، ويطوف عليهم خدام ، وولدان ، كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون ، في مقام أمين في جنات وعيون ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم قتر ولا ذلة ، بل عباد مكرمون ، وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ، لا يخافون فيها ، ولا يحزنون ، وهم من ريب المنون آمنون ، فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبنا وخمرا وعسلا في أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران ، ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور ويؤتون بأكواب وأي أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر ، والياقوت ، والمرجان ، كوب فيه من الرحيق المختوم ، ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره ، يبدو الشراب من ورائه برقته ، وحمرته ، لم يصنعه آدمي فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته في كف خادم يحكي ضياء وجهه الشمس في إشراقها ولكن من أين للشمس مثل حلاوة صورته ، وحسن أصداغه ، وملاحة أحداقه .
فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها ، ويوقن بأنه لا يموت أهلها ، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها ويتهنأ بعيش دونها ؟ والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت ، والجوع ، والعطش ، وسائر أصناف الحدثان ، لكان جديرا بأن يهجر الدنيا بسببها ، وأن لا يؤثر عليها ما التصرم والتنغص من ضرورته كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرور ممتعون ، لهم فيها كل ما يشتهون ، وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون ، وإلى وجه الله الكريم ينظرون ، وينالون بالنظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ، ولا يلتفتون ، وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون ، وهم من زوالها آمنون قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينادي مناد يا أهل الجنة : إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، فذلك قوله عز وجل : أبو هريرة ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون .
ومهما أردت أن تعرف صفة الجنة فاقرأ القرآن ، فليس وراء بيان الله تعالى بيان ، واقرأ من قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان إلى آخر سورة الرحمن ، واقرأ سورة الواقعة ، وغيرها من السور .
وإن أردت أن تعرف تفصيل صفاتها من الأخبار ، فتأمل الآن تفصيلها ، بعد أن اطلعت على جملتها وتأمل أولا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قوله تعالى : عدد الجنان ولمن خاف مقام ربه جنتان قال . جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه ، في جنة عدن