الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة : فإياك ثم إياك أن تستحقر شيئا من حركاتك فلا تحترز من غرورها وشرورها ، ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب ؛ فإن الله تعالى مطلع عليك وشهيد ، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقال بعض السلف : كتبت كتابا وأردت أن أتربه من حائط جار لي فتحرجت ثم قلت : تراب وما تراب فأتربته ، فهتف بي هاتف : سيعلم من استخف بتراب ما يلقى غدا من سوء الحساب .

وصلى رجل مع الثوري فرآه مقلوب الثوب فعرفه فمد يده ليصلحه ثم قبضها فلم يسوه فسأله عن ذلك فقال : إني لبسته لله تعالى ، ولا أريد أن أسويه لغير الله .

وقد قال الحسن إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول : بيني وبينك الله ، فيقول : والله ما أعرفك . فيقول : بلى أنت أخذت لبنة من حائطي وأخذت خيطا من ثوبي .

فهذا وأمثاله من الأخبار قطع قلوب الخائفين فإن كنت من أولي العزم والنهى ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك ، وراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولا أنك لم تتحرك وماذا تقصد وما الذي تنال به من الدنيا ؟! وما الذي يفوتك من الآخرة ؟!، وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة ؟! فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك وما خطر ببالك ، وإلا فأمسك ، ثم راقب أيضا قلبك في إمساكك وامتناعك فإن ترك الفعل فعل ، ولا بد له من نية صحيحة ، فلا ينبغي أن يكون لداعي هوى خفي لا يطلع عليه ولا يغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات وافطن ، للأغوار والأسرار تخرج من حيز أهل الاغترار .

، فقد روي عن زكريا عليه السلام أنه كان يعمل في حائط بالطين ، وكان أجيرا لقوم ، فقدموا له رغيفه إذ كان لا يأكل إلا من كسب يده فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده ، وظنوا أن الخير في طلب المساعدة في الطعام فقال : إني أعمل لقوم بالأجرة وقدموا ، إلي الرغيف لأتقوى به على عملهم ، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت ، عن عملهم فالبصير هكذا ينظر في البواطن بنور الله فإن ضعفه عن العمل نقص في فرض ، وترك الدعوة إلى الطعام نقص في فضل ، ولا حكم للفضائل مع الفرائض وقال بعضهم : دخلت على سفيان وهو يأكل ، فما كلمني حتى لعق أصابعه ثم قال : لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه .

وقال سفيان من دعا رجلا إلى طعامه وليس له رغبة أن يأكل منه فإن أجابه فأكل فعليه وزران وإن لم يأكل فعليه وزر واحد ، وأراد بأحد الوزرين النفاق ، وبالثاني تعريضه أخاه لما يكره لو علمه .

فهكذا ينبغي أن يتفقد العبد نيته في سائر الأعمال فلا يقدم ولا يحجم إلا بنية فإن لم تحضره النية توقف فإن النية لا تدخل تحت الاختيار .

التالي السابق


(وبالجملة: فإياك ثم إياك) يا أخي (أن تستحقر شيئا من حركاتك) وسكناتك (فلا تحترز من غرورها وشرورها، ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب؛ فإن الله مطلع عليك وشهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) فلا تقدم ولا تحجم إلا بنية.

(وقال بعض السلف: كتبت كتابا وأردت أن أتربه من حائط جار لي فتحرجت) من ذلك (ثم قلت: تراب وما تراب) كأنه استحقر شأنه: (فأتربته، فهتف بي هاتف: سيعلم من استخف بتراب ما يلقى غدا من سوء الحساب) نقله صاحب القوت .

(وصلى رجل مع) سفيان (الثوري) رحمه الله تعالى صلاته وكان قد خرج معه بغلس (فرآه) حين أصبح (مقلوب الثوب) أي: لبس إزاره مقلوبا (فعرفه) أي قال له: يا أبا محمد: قد لبست ثوبا مقلوبا فأصلحه (فمد) سفيان (يده ليصلحه) ويسويه، (ثم قبضها) أي: يده (فلم يسوه) أي: لم يصلحه، وأبقاه على ما كان عليه، (فسأله عن ذلك) وقال: ما منعك أن تسويه عليك؟ (فقال: إني لبسته لله تعالى، ولا أريد أن أسويه لغير الله) عز وجل، نقله صاحب القوت .

(وقد قال الحسن) البصري فيما رواه مبارك عنه: (إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله، فيقول: والله ما أعرفك. فيقول: بلى أنت أخذت لبنة من حائطي) وإن الرجل ليتعلق بالرجل فيقول: أنت (أخذت خيطا من ثوبي) ولفظ القوت، فيقول: هذا أخذ من ثوبي زيشيرا .

(فهذا وأمثاله من الأخبار) والآثار (قطع قلوب الخائفين) وشرد عنهم الراحة (فإن كنت من أولي العزم) البالغ (والنهى ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن) وأنت في الدنيا (ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك، وراقب أحوالك) مراقبة من يتحقق باطلاع مولاه عليها .

(ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولا أنك لم تتحرك) أي: لأي شيء حركتك هذه (وماذا تقصد) بهذه الحركة؟ (وما الذي تنال به من الدنيا؟! وما الذي يفوتك به من الآخرة؟!، وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة؟!

فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك) وقصدك (وما خطر ببالك، وإلا فأمسك، ثم راقب أيضا قلبك في إمساكك وامتناعك فإن ترك الفعل فعل، ولا بد له من نية صحيحة، فلا ينبغي أن يكون لداعي هوى خفي) في النفس (لا يطلع عليه) .

وفي القوت: ولا ينبغي للعبد أن يدخل في كل شيء حتى يعلم علمه، فيكون داخلا في كل عمل بعلم مثله؛ لأن الله في كل شيء حكما، فما علم من ذلك حمد الله عليه وعمله، وما جهل سأل عنه من هو أعلم به، وما أشكل عليه أمسك عنه حتى يتبين له وجهه، فيقدم عليه أو يتركه، وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة الله، وتقربا إليه لأجله، فهذا على النيات .

(ولا تغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات، وأفطن للأغوار والأسرار، فقد روي) في بعض الأخبار (أن زكريا -عليه السلام- كان يعمل في حائط بالطين، وكان أجير القوم، فقدموا إليه) أي: أصحاب الحائط (رغيفه) أي غداءه (إذ كان لا يأكل إلا من كسب يده) وقد اشتهر أنه -عليه السلام- كان نجارا، فلعله أيضا كان بناء، (فدخل عليه قوم) فسلموا عليه (فلم يدعهم إلى الطعام) الذي بين يديه (حتى فرغ) من الأكل (فتعجبوا منه) حيث لم يدعهم إلى الطعام (لما علموا من سخائه وزهده، وظنوا أن الخير في طلب المساعدة في الطعام) ففهم عنهم ما قام بذهنهم فاعتذر لهم .

(فقال: إني أعمل لقوم [ ص: 29 ] بالأجرة، وقد قدموا إلي الرغيف لأتقوى به على عملهم، فلو) دعوتكم إليه، و (أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني، و) كنت قد (ضعفت عن عملهم) .

ولفظ القوت: وروي عن زكريا -عليه السلام- أن قوما دخلوا عليه وكان يعمل في حائط لقوم بالطين، وكان صانعا يأكل من كد يديه، فقدم إليه عندهم رغيفان، وجعل يأكل ولم يدعهم حتى فرغ، فسألوه عن ذلك لعلمهم بزهده وكرمه! فقال: إني أعمل لقوم بأجرة، وقربوا إلي هذين الرغيفين؛ لأتقوى بها على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم. اهـ .

(فالبصير هكذا ينظر إلى البواطن بنور الله) عز وجل (فإن ضعفه عن العمل نقص في فرض، وترك الدعوة إلى الطعام نقص في فضل، ولا حكم للفضائل مع الفرائض) .

ولفظ القوت: فهذا ممن ترك نفلا لفرض، وإن كانت له نية في الترك كما تكون له في الفعل .

(وقال بعضهم: دخلت على سفيان) ظاهر إطلاقه أن المراد به الثوري وليس كذلك، ففي القوت: دخلت على سفيان أبي عاصم، وهو سفيان بن عبد الرحمن بن عاصم بن سفيان بن عبد الله الثقفي المكي، روى له النسائي وابن ماجه (وهو يأكل، فما كلمني حتى لعق أصابعه) أي فرغ من الأكل (ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه) نقله صاحب القوت، وهذا أيضا يعرفك النظر إلى البواطن دون الظواهر .

(وقال سفيان) الثوري رحمه الله تعالى: (من دعا رجلا إلى طعامه وليس له رغبة أن يأكل منه) ولفظ القوت: وليس له نية أن يأكل منه، والمعنى: ليس له رغبة في إجابته (فإن أجابه وأكل فعليه وزران وإن لم يأكل) ولفظ القوت: وإن لم يجبه (فعليه وزر واحد، وأراد بأحد الوزرين النفاق، وبالثاني تعريضه أخاه لما يكره لو علمه) ولفظ المقاصد: وبالثاني أنه أطعم أخاه ما لو علمه لم يأكله. ولفظ القوت: فيصير عليه وزرين مع أكل طعامه بغير نية لتعرضه بالمقت وحمله أخاه على ما يكره؛ إذ لو ... لما أجابه .

(فهكذا ينبغي أن يتفقد العبد نيته في سائر الأعمال) والأحوال (فلا يقدم ولا يحجم) عن الإقدام (إلا بنية) إن كان مريد السعادة الآخرة (فإن لم تحضره النية توقف فإن النية لا تدخل تحت الاختيار) والله الموفق .




الخدمات العلمية