فالأنس يحصل بدوام الذكر ، والمعرفة تحصل بدوام الفكر والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا ، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلا إلى الخير ، مريدا له ، نافرا عن الشر ، مبغضا له ، وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها كما يميل العاقل إلى القصد والحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما .
، وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه ، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة وتقوى بسببها .
فالمائل إلى طلب العلم او طلب الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفا ، فإن اتبع بمقتضى الميل ، واشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك تأكد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر ، وربما زال وانمحق .
، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلا فيميل إليه طبعا لا ضعفا لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه ، ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل ، ويكون ذلك زبرا ودفعا في وجهه ؛ حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي .
وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة ، والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا لا الآخرة .
، وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر ، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة وترك المعاصي بالجوارح ؛ لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر ، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب ، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء ، وارتعدت الفرائص ، وتغير اللون ، إلا أن القلب هو الأصل المتبوع فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع .
فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه ، فالقلب هو المقصود والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : وقال عليه الصلاة والسلام : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد " " اللهم أصلح الراعي والرعية " وأراد بالراعي القلب وقال الله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وهي صفة القلب .
فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح .
ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل ؛ لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له .
وغرضنا ، من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ، ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر ، فبالضرورة يكون خيرا بالإضافة إلى الغرض ؛ لأنه متمكن من نفس المقصود ، وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة ، فالشرب خير من طلاء الصدر ؛ لأن طلاء الصدر أيضا إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة فما يلاقي عين المعدة فهو خير وأنفع .
فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها ؛ إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح ، فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض ، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعا فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ، ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكدت الرقة في قلبه ولهذا لم يكن مفيدا أصلا ؛ لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه أو ظان أنه يمسح ثوبا لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة ، وكذلك من يسجد غافلا وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكد به التواضع ، فكان وجود ذلك كعدمه ، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلا ، فيقال : العبادة بغير نية باطلة ، وهذا معناه إذا فعل عن غفلة فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شرا ، فإنه لم يؤكد الصفة المطلوبة تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا . فهذا وجه كون النية خيرا من العمل . العمل بغير نية
وبهذا أيضا يعرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم : لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب ، الدنيا وهي غاية الحسنات ، وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيدا ، فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثارا لوجه الله تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم والتقوى ههنا صفة القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة " " إن قوما بالمدينة قد شركونا في جهادنا " كما تقدم ذكره لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد ، وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب ، وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات .
وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التي أوردناها في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا نطول بالإعادة .
بيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية .